لا وظيفة للكاتب سوى أن يكون حرًّا | واسيني الأعرج

  • 10/1/2015
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

للمرة الثانية منذ تأسيسه، يمنح منتدى الآداب والتبادل الثقافي في باريس، الذي تديره الشاعرة المغربية أحلام لقليدة، للمثقفين العرب في الغربة، لقاءً أدبيًا غير منتظر مع كاتب كبير، منحتنا رواياته الصورة الأدبية الأكثر إشراقًا واكتمالاً عما عاناه ويُعانيه الشعب الفلسطيني منذ أيام التهجير الأولى في 1948 حتى اتفاقيات أوسلو، التي منحت الفلسطيني بعض وطنه، لكنه في أرضه. صحيح أن باريس تعج بدياسبورا عربية عميقة ومثقفة، ومتعددة الاختصاصات، ولكنها تحتاج فقط إلى من يمنحها فضاءً حيًا ومنتجًا للتعبير عن مشاغلها، وتنصت إلى شجن الضفة الأخرى التي تسكنها. ربما الفرصة التي منحت لها في الأسبوع الماضي لا تُعوّض لأنها قدّمت وجهًا ليس ككل الوجوه. روائي فلسطيني. فهو يجمع الهم العربي وهم أرضه التي تُمزَّق وتُسرَق أطرافها أمام صمت وتواطؤ الرأي العام العالمي. قدّم «يحيى يخلف» في هذه الأمسية رحلته الطويلة مع الحياة ومع الكتابة، في لقاء ثقافي جميل وحميمي. اقتفى علامات مسار قاسٍ وشجاع، بدأ برحلة المنفى الأول والتهجير أمام أم سُرق منها بيتها وكل ما تملك، لكنها ظلت شامخة على الرغم من انكسارها وخيباتها لدرجة أن يحيى الابن، المتشبث بلباس أمه والمرعوب من فوّهات البنادق لم يكن يعرف هل كانت الأم ترتجف من شدة الخوف أم البرد، وهل الماء الذي كان ينزل من عينيها كان بسبب الأمطار أم كانت دموعًا مُخبّأة في قطرات المطر، لكي لا تخيف ابنها أكثر الذي سُرق منه بيته وحاراته. ذكّرتني الحادثة التي رواها الكاتب بروايته «ماء السماء». صور عائلة تحمل ما استطاعته على متن عربة يجرها حصان عجوز باتجاه الأردن التي كانت شاقة ليبدأ معها زمن آخر أكثر سوءًا، هو زمن المنافي والتشرد. الرحلة من بحيرة طبرية التي سرق ماؤها وقرية سمخ التي عاش فيها الكاتب، وهي أيضًا مأوى سيدنا المسيح، في مجدل طبرية، بعد ولادته في بيت لحم، بقيتا هما اللحظة الأولى في مخيلة الكاتب بكل محمولهما التاريخي والإنساني. هذه اللحظة أو البؤرة الصفر هي التي سيتشكل منها الوجدان الإبداعي للكاتب. يجد التلميذ يحيى الذي بدأ يتمرس على القراءة في منجز المدرسة الرومنتيكية العربية ضالته الأدبية بالخصوص مع كتابات جبران وروايته «دمعة وابتسامة»، قبل أن يتواصل مع الأصول التي سيتفتح عليها عقله ومخياله كمقدمة ابن خلدون وكتاب الأغاني للأصفهاني والبيان والتبيين للجاحظ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والأمالي لأبي علي القالي وغيرها من المرجعيات الثقافية العربية التأسيسية. منحته ترجمات الأدب الإنجليزي والفرنسي والروسي سندًا حقيقيًا شكّل جزءًا من علاقته الأولى بالحداثة الغربية التي انعكست على رواياته بالخصوص على بنياتها. أما على الصعيد السياسي فقد شبّ كما أبناء جيله، في الحاضنة الناصرية التي لعبت الدور الأساس في تربية وعيه السياسي القومي. ولا ننسى في هذا السياق ما كان لمجلة الآداب من دور حيوي في الانفتاح والتجديد العربي من خلال ما كانت تنشره المجلة من شعرٍ وقصص، والتماس مع الثقافة الغربية من خلال ترجمات المجلة ودار الآداب أيضا، بالخصوص الفكر الوجودي الذي شغل وقتها الملايين من الشباب العالمي. في ١٩٦٧ تحولت ثقافته الوطنية والإنسانية إلى فاعلية حقيقية، فالتحق بقواعد منظمة فتح. بعد اتفاقية أوسلو، عُين وزيرا للثقافة قبل أن يُدرك أن على المثقف الكاتب والمبدع خصوصًا، أن يظل خارج كل المؤسسات ويكتب بحُرية. الكثير من نصوصه الروائية هي علامات عن منافيه وأسفاره كـ»نجران تحت الصفر» التي كانت إعلانًا عن ميلاد روائي عربي كبير، التي قرَّرَت وقتها الكثير من المؤسسات التربوية العربية برمجتها، و»تفاح المجانين»، و»ماء السماء»... وغيرها، فلا وظيفة للكاتب سوى أن يكون حرًّا.

مشاركة :