سلب السلطة من السلطة الرابعة بقلم: كرم نعمة

  • 1/14/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

عندما تفقد الصحافة استقلاليتها وتتحول إلى مشروع تجاري أو سياسي بيد الحكومة أو رجال الدين والأعمال، ستتحدث بصوت مصالحهم وتنظر إلى الحقائق بطريقة مشوهة وتصدر أحكامها وفق ما يرتئي ممولوها. العربكرم نعمة [نُشرفي2017/01/14، العدد: 10512، ص(18)] عندما أطلق البرلماني البريطاني إدموند بيرك بعد 85 عاما من إصدار أول صحيفة في فليت ستريت، صيحته المدوية عن السلطة الرابعة، كان التاريخ في أوج يقظته، إلى درجة أنه لم ينم بعدها كلما تعلق الأمر بمس هذه السلطة. “إنها السلطة الرابعة”، هكذا قال بيرك عام 1787 مشيرا إلى منصة الصحافيين في البرلمان البريطاني. كانت أدوات مثل هذه السلطة على وشك النضوج آنذاك، فقبل هذا التاريخ، وتحديدا عام 1702 أصدرت إليزابيث ماليت صاحبة مطبعة في فليت ستريت صحيفة “ذي ديلي كورات” وهي تؤرخ لعهد الصحافة كسلطة تراقب السياسيين وأداء الحكومات وتمنع الفساد في المال العام. كذلك بنيت الصحافة الأميركية المستقلة بعدها على مر القرن التاسع عشر مستفيدة من تطور الطباعة والمراسلات البريدية والتمويل الإعلاني. يثار مثل هذا الكلام اليوم عن “السلطة الرابعة” إثر التحرك الحكومي في بريطانيا بشأن مناقشة تنظيم الصحافة، وهو أمر يعتبره الصحافيون أقرب إلى محاسبة الصحف على كشفها فساد السياسيين وتناقضاتهم. صوت الصحافيين القَلِقْ والمتصاعد إزاء محاولة الحكومة سلب أثمن ما تمتلكه الصحافة، يُذكّر بأن لولا الصحافة لما كشفت وثائق ويكيليكس التي هزت العالم وعرت الفساد ومن يقف خلفه من الحكومات وأصحاب الثروات، ولولاها لما كانت منظمة فاسدة مثل الفيفا تحت المراقبة اليوم بعد أن أحيل كبار المسؤولين فيها إلى القضاء، فبمجرد وضع العتلات الحكومية في عجلة الصحافة المتحركة، هذا يعني المزيد من الفساد والمزيد من التدهور في الحقوق وفي الاستحواذ على المال العام. نتذكر قبل سنوات كيف نحّت مؤسسات إعلامية بريطانية خلافاتها التاريخية جانبا وإلتقت في رسالة مهنية لمواجهة استحواذ إمبراطور الإعلام روبيرت مردوخ على شبكة سكاي نيوز برمتها، معتبرين أن هذا الاستحواذ يهدد “التعددية في الإعلام”. وذكّرت الرسالة التي اشتركت في التوقيع على مضمونها كبرى الصحف البريطانية، بالتقاليد الصحافية التي أرساها فليت ستريت في بريطانيا والعالم، وأن المجتمع لا يقبل بالتنازل عن اتجاهات قائمة وراسخة من أجل صناعة تجارية. لكن السياسيين المطالبين بتنظيم الصحافة، يشيرون أيضا إلى فسادها وانتهاكها خصوصية الأشخاص ومس حريتهم، مذكرين بتقرير القاضي اللورد بريان ليفيسون الذي اتهم وسائل الإعلام البريطانية بنشر “فوضى مدمّرة” منتقدا علاقاتها مع السياسيين. هذا صحيح عندما تفقد الصحافة استقلاليتها وتتحول إلى مشروع تجاري أو سياسي بيد الحكومة أو رجال الدين والأعمال، عندها ستتحدث بصوت مصالحهم وتنظر إلى الحقائق بطريقة مشوهة وتصدر أحكامها وفق ما يرتئي ممولوها. حساسية السلطة الرابعة في الدول الديمقراطية أيضا تعرضت للانتهاك والتشويه وفقا للمصالح المالية والسياسية، لم تعتذر الصحافة مثلا على أكاذيب بقيت متصاعدة ومستمرة عن أسلحة دمار شامل افترضت أنها بحوزة العراق قبل احتلاله، الأمر الذي دفع الروائي البريطاني هنري بورتر إلى كتابة مقاله الشهير في صحيفة الأوبزرفر قائلا “أولئك الذين يقولون إن التاريخ سيعفي دعاة الحرب في العراق، واهمون”. ومهما يكن من أمر، فالديمقراطية في حقيقتها تفضل دولة من دون حكومة على دولة من دون صحافة، لأن وجودها يعني بالضرورة مراقبة الأداء والتغوّل والطغيان. أو بتعبير ستيفن بريل، الذي يدير مؤسسة تتابع وسائل الإعلام الإخبارية، أنه يجب ألا يشعر الصحافيون بالراحة لدراسة الحكومة دعم عملهم. وسبق أن كتب جيف جارفيس، الأستاذ المشارك في كلية الدراسات العليا في الصحافة لجامعة نيويورك، مقالا في “نيويورك بوست” وصف فيه تدخل الحكومة بأنه غير مناسب وغير ضروري للحفاظ على مستقبل الصحافة. أي سلطة رابعة تمتلكها الصحافة في العالم العربي؟، مثل هذا السؤال سيتعرض للتهكم عند إطلاقه قبل نصف قرن، لأن الصحافة العربية كانت صوت الزعيم ولا منافس لأخباره فيها! لكن السؤال امتلك مساحة مريحة للرأي في عصر انتشار المعلومات، ستكون الصحافة معزولة وعلى الهامش، إن لم يكن صوتها جادا ومتضامنا مع آلام الناس ومدافعا عن حقوقهم. صحيح أن الصحافة في العالم العربي لم تمتلك بعد بشكل فعلي دورها كسلطة رابعة، لأنها تخضع لسلطة الممول الحاكم، لكنها على الأقل تدرك هذا الدور المناط بها، وتلك مساحة مفيدة للتفاؤل. لا أحد يثق بأن الحكومات ستهرع في يوم ما من أجل المحافظة على السلطة الرابعة التي تمتلكها الصحف، إن لم تكن تسعى إلى اختراقها وإفسادها أصلا. لكن الصحافة ستفقد مفهومها كصحافة بمجرد التفكير بالتنازل عن هذه السلطة من أجل غايات تجارية، بدلا من إعادة تشكيل علاقتها مع الجمهور وإعادة ابتكار نفسها من أجل القراء الأوفياء. كاتب عراقي مقيم في لندن كرم نعمة :: مقالات أخرى لـ كرم نعمة سلب السلطة من السلطة الرابعة, 2017/01/14 هل حقا لا ينام ترامب؟, 2017/01/09 كيف يدخل المعلنون إلى وعينا, 2017/01/07 2016 أسقط نرجسية وسائل الإعلام, 2016/12/31 ما معنى أن تكون الصحافة الحكومية ديمقراطية, 2016/12/24 أرشيف الكاتب

مشاركة :