عطر الورق وميض الشاشات لطفية الدليمي ذات يوم وأنا في تشردي خارج وطني أقمت في بيوت معارف كان أصحابها يتمتعون بإجازاتهم السنوية ويدعونني لأقيم فيها ريثما يعودون، عانيت فترات وحشة مريعة في تلك المنازل التي لا يحتفي ساكنوها بالكتب ولا يمتلكون مكتبات منزلية، فكنت أرى البيت محض جدران بكماء معادية لا تشعرني بالأمان ولا تمنحني إحساسا بالألفة والحنوّ، ويبدو أن تلك العائلات اكتفت بقراءة الكتب الإلكترونية وأزالت كل أثر للمكتبات التقليدية من البيوت، فكان أن عمدت إلى شراء مجموعات من الكتب التي أحب لأنشئ بذرة مكتبة قد تشجع سكان البيت على تنميتها، فعلت ذلك مع بيوت عديدة فتوزعت مكتباتي المرتجلة وكتبي التي أحب في العديد من المنازل التي أقمت فيها. تبدلت في أيامنا هذه وسائل التواصل والاتصال وغزت التقنية الرقمية حياتنا فتغيرت تبعا لذلك علاقتنا ببعضنا وبالأشياء. ندر التواصل الحقيقي فقد اكتفى معظم الناس بالتواصل الإلكتروني، فقد يسّر الذين يسرت لهم التقنيات الرقمية أمورا كثيرة في إنجاز مهماتهم اليومية ومتطلبات العيش والعمل فحمل مدمنو القراءة مكتباتهم الإلكترونية أينما حلوا أو ترحلوا محملة بآلاف الكتب وما عاد أكثرهم بحاجة لمكتبات تزاحم سكان البيت في الشقق الحديثة الضيقة، لكن عشاق الكتاب الورقي لم يتخلوا بسهولة عن المكتبة والكتاب المطبوع الذي تربطهم به علاقة مادية محسوسة، فهم يحتضنون الكتاب، يشمونه، يلمسونه فينشئون علاقة شخصية جدا معه على الضد من الكتاب الإلكتروني وهشاشة العلاقة العابرة معه فهو لا يمنح تلك الأحاسيس التي ترسّخ القراءة عبر المشاعر والذاكرة. تغيرت أشياء كثيرة في عالمنا، لكن عشاق الكتب مازالوا يهيمون انسحارا برائحة كتاب ورقي عتيق يعيد لهم ذكريات محددة ارتبطت بقراءته، أو بكتاب جديد ما يزال يضوع بروائح أحبار المطبعة، فهؤلاء العشاق ينتشون بالكلمة المطبوعة والصفحة الصقيلة وتسهم حواسهم في تعزيز متعة القراءة وتحفيز الذاكرة، وهم صامدون إزاء غواية وهيمنة الكتاب الإلكتروني ومعهم جمعيات ومؤسسات تروّج لحماية القراءة الورقية وتسهم في تعزيز شخصانية العلاقة مع الكتاب الورقي لدى الأجيال الجديدة، وتقيم مهرجانات القراءة وحفلات التبرع بالكتب. أذكر هنا أن المغنية الشهيرة دولي بارتون أطلقت في 1995 مشروعا جديدا ومثيرا أسمته “مكتبة الخيال لدولي بارتون” لتحفيز أطفال العالم على قراءة الكتاب الورقي ومنحهم متعة التخيل والتفكير الإبداعي. واهتم مشروعها بفئات الأطفال العمرية المختلفة وقامت خلال عقدين من الزمان بإرسال ملايين الكتب الورقية إلى الأطفال في مختلف أنحاء العالم ومنحت المتعة والسعادة إلى خمسة وثمانين مليونا و419 طفلا أرسلت لهم القصص المصورة عبر البريد، وتعقب بارتون على مشروعها قائلة “قراءة الكتاب تصنع فرقا في حياتنا”. يعلق الكاتب ألبرتو مانغويل، الذي كرس حياته للكتابة عن المكتبات وتاريخ القراءة، قائلا “لا أظن أن الكتاب الورقي سيختفي يوما طالما قبلنا بتعايش التقنيات، إن فكرة استبدال تقنية ما بتقنية أخرى وأن تبقى وحيدة في الساحة على سطح الكوكب الأرضي هو بالضبط ما لم يحصل من قبل. فلم يتحقق هذا مع تقنيات الرسم والتصوير الفوتوغرافي، ومع الفيلم والمسرح، ومع الفيديو والفيلم السينمائي، ولا أظنها ستحصل مع الكتب الرقمية والكتاب المطبوع”. قبل بضع سنوات أعلن بيل غيتس مالك شركة “مايكروسوفت” أكبر شركة للبرمجيات في عالمنا في دراسة له بأن عصر الكتاب الورقي المطبوع قد انتهى وسيحل الكتاب الإلكتروني محله، ولكنه نشر كتابه الذي يضم هذه النبوءة بشكل كتاب ورقيّ ترجم إلى لغات عديدة وبيعت منه ملايين النسخ وشكل هذا الأمر ردا مفحما على نبوءته ذاتها. كاتبة من العراق باهر/12
مشاركة :