هذا عمل مُوجه إلى الراغبين في قراءة مشروع طه عبدالرحمن، صاحب مؤلفات في الفلسفة والمنطق والإسلاميات، بعيداً من اللغة الاستدلالية والمنطقية التي يُحرر بها غالبية أعماله، بحكم أن الأمر يتعلق هنا بعمل حواري: نحن في ضيافة كتابه «الحوار أُفُقاً للفكر»، وهو عبارة عن تجميع لمجموعة من الحوارات أُجريت معه خلال السنين الأخيرة. اختار طه عبدالرحمن خيار «النقد المزدوج» لأبناء الذات الإسلامية والغربية على حد سواء، معتبراً أن الإساءات والاعتداءات والحملات على المسلمين ستتوالى وتتواتر من غير انقطاع، بل ستتكثّف وتتسع، حتى إن من أبناء المجال التداولي الإسلامي ممن سيُساهمون فيها على عادتهم في تقلد الغالب والرضا بالتبعية له، من منطلق أن إنسان اليوم، أو «إنسان الساعة» كما يصفه (ص 179)، أصبح بلا وجهة وبلا قِبلة يُولّي وجهة شطرها، وهذا واقع يُشكل تحدياً أخلاقياً عالمياً، ينبغي لإنسانية جمعاء أن تنهض للتصدي له، من خلال أمرين اثنين: أولهما أن نضاهي الآخرين في ما يملكون من أسباب العقل، من غير أن نقع في الأهواء التي وقعوا فيها بسبب فقدهم الوجهة؛ والثاني أن نضطرهم إلى ما نملك من القيم بإظهار قدرتها على التوجيه، مع حفظ اشتراكنا معهم في القيم المهذبة التي يأخذون بها؛ لذا، لا بد لنا من استعمال وسليتين: 1- الرهان على ما يصفه بـ «الاستدلالية المؤسّسة»، وهي أنه لا يكفي المسلمَ أن يكون قادراً على استعمال خطاب يتضمن الأدلة العقلية والحقائق العلمية، بل عليه أن يُحصل القدرة على أن يُعمل عقله في النصوص الأصلية والشواهد التاريخية التي هي وحدها تحفظ له وجهه، ثم يستنبط منها أدلة عقلية وحقائق علمية ينظمها في خطاب متسق، وتكون قابلية هذا الخطاب للنقد مضاهية لقابلية النقد التي يتمتع بها خطاب الساخر أو القاذف؛ 2- الرهان على «الأخلاقية الموسَّعة»، وهي أنه لا يكفي المسلمَ أن يكون قادراً على اتخاذ سلوك يحفظ القيم الإنسانية التي يشترك فيها مع الذي يؤذيه، بل عليه أن يُحصّل القدرة على أن يمحو عن القيم المبثوثة في النصوص الأصلية ويبذل قصارى جهده النظري والعملي في دمجها في جملة القيم العالمية، حتى يجعل الساخر أو القاذف مضطراً إلى تحمل تبعات مخالفته لها كما يتحمل تبعات مخالفة القيم التي نشأ عليها. (ص 180). ويبدو أن هذين المفتاحين المفاهيميين، ينطبقان على الخيارين البارزين اللذين ميّزا تعامل أبناء المجال التداولي الإسلامي مع واقع الرسوم الكاريكاتورية السيئة الذكر. نبدأ بدحض المؤلف/ المحاوَر أحد أقدس أقداس الحداثة، والحديث هنا عن تعامل المسلمين مع مفهوم «العقل»، حيث مَهّدَ لهذا النقض الذي جاء في الكثير من أعماله بالتوقف عند إشارة طريفة صدرت عن الفيلسوف النمسوي لودفيغ فنغشتين والذي أسسّ مدرسة منطقية شهيرة، فعندما دُعي إلى إلقاء المحاضرة، وكانوا ينتظرون محاضرة في إطار حدود المنطق أو في إطار الرياضيات، فإذا به يقرأ عليهم شعر الشاعر الهندي المشهور طاغور! يُورد طه هذه الواقعة ليُغذي اجتهاداً يُفيد بأن مسألة حدود العقل اليوم ليست مسألة فلسفية بل هي مسألة رياضية بامتياز، بحيث إن هناك نظريات رياضية معلومة توصل إليها رياضيون مشهورون تُبين حدود العقل، مضيفاً أنه لا يمكن العقل أن يحيط بكل شيء، لأنه هو جزء من هذا الكل فكيف بالجزء أن يحيط بالكل، هذه نقطة أولى؛ لا يمكن العقل أن يبرهن إطلاقاً عن نفسه، لأنه لكي يبرهن عن نفسه يحتاج إلى عقل فوقه له وسائل أقوى، وإذا أردنا أن نبرهن على العقل الثاني نحتاج إلى عقل من فوقه وهكذا دواليك في تسلسل لا ينتهي، وأما إذا بقينا في الحلقة الأولى التي نبرهن فيها على العقل بالعقل كما هو بوسائله، فسنقع في حلقة مفرغة، هذه نقطة ثانية؛ بمعنى آخر، إن العقل له حدود لا يمكن أن تُتَجاوز ومبرهن عليها رياضياً ببراهين طويلة ومعقدة جداً وليست إلا في متناول الرياضيين. في ما يتعلق بموقف إيمانويل كانط من الأخلاق، لَخّصَ طه عبدالرحمن اجتهادات صاحب «نقد العقل الخالص» في كونه عَلمَنَ الأخلاق عندما فَصَلها عن الدين وأدخل عليها التعقيل، أي التحليل العقلي والتنظير العقلي، ومن دون أن يحول ذلك، من وجهة نظر صاحب «سؤال الأخلاق» من التأكيد على أن الأصل في الأخلاق هو أصل ديني، وهذا ما تطرق إليه ببعض التفصيل في كتابه «سؤال الأخلاق»، مورداً مثالاً لطيفاً في هذا السياق: نحن نمارس اليوم باستمرار في مجالنا وفي حياتنا علمنة الأخلاق، فمفهوم «التضامن» مفهوم أخلاقي ديني ولكن الأصل فيه هو «الإحسان» عند المسيحيين و «التراحم» عند المسلمين. فمبدأ التراحم أدخلت عليه الصفة العقلية، فألبس اللباس العقلي ليصبح هو «التضامن». ينطبق المعطى نفسه مع مفهوم آخر وهو مفهوم «المواطنة». فهذا المفهوم، برأي المُحاوَر، هو علمنة لمفهوم «الأخوة» وهو مفهوم ديني، فتكون «المواطنة» عبارة عن علمنة هذا المفهوم. فما قام به كانط في الحقيقة هو أنه فصل الأخلاق عن الدين على رغم أنها موصلة أصلاً به، وقام بهذا الفصل ليستجيب مقتضى الحداثة ومقتضى الأنوارية التي حددها في مبدأ: «فكر بنفسك ولا تنتظر وصاية أحد عليك». فنحن أمام مسألة استيلاء العقل على الأمور الدينية وصرفها صرفاً عقلياً عن أصولها في الدين. أما السبب الرئيس في أن الدين هو أصل يرجع إلى أن القيم الأخلاقية لا هي مُثُل لا وجود لها في الواقع، ولا هي تُجَرَّدُ من الوقائع كما تجرد الكليات من الجزئيات. في ما يُشبه تلخيصاً مُركزاً لأهم مضامين كتاب «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية»، يرى طه عبدالرحمن أن الدخول إلى الحداثة اليوم وبناء فكرنا على روحها، يتم بواسطة مدخلين أساسيين: مدخل الترجمة، وقَصَدَ بها تحديداً الترجمة المبدعة؛ ومدخل القراءة الحداثية للقرآن التي ينبغي أن تكون قراءة مبدعة، مؤاخذاً على اجتهادات التيار الفكري الإسلامي الذي انخرط في مشروع ضخم يحمل اسم «القراءات الحداثية للدين»، أو بتعبير أدق، «القراءات الحداثية للقرآن»، أنها انطلقت من خلل مفاهيمي في الشروط التي وضعتها في تعريف الحداثة وهي الإبداع الذي يستند إلى مفهومين هما: «الإنشاء» و «الجمال»، لأن هذين الشرطين لا يتوافران في هذه القراءات وبالتالي لا يجعلانها مبدعة، إنما هي نقل لخِطط القراءة التي استخدمها الحداثيون الغربيون لقراءة التوراة والإنجيل، وهي خطط ثلاثة كان هدفها دائماً هو الفصل والانقطاع عن الدين: 1- الخطة الأولى هي «خطة الأنسنة»، والمراد بها هو نقل الآيات القرآنية من الوضع الإلهي إلى الوضع الإنساني، والغاية من ذلك هي محو القدسية عن النص الديني؛ 2- ثم هناك خطة ثانية هي «خطة العقلنة»، وتقتضي هذه الخطة استخدام جميع أدوات النظر والنظريات الموجودة في المجال العلمي لتطبيقها على النص القرآني، والغرض من استخدام هذه الوسائل العقلية هو صرف أي آثار للغيبية عن النصوص القرآنية؛ 3- ثم الخطة الثالثة هي «خطة الأرخنة»، وتقوم على وصل هذه النصوص بسياقها التاريخي وبظروفها، والغاية من ذلك هي صرف الأحكام عن النصوص الدينية، ويُسميها بـ «الحكمية»، أي صلاحية الأحكام لزمان آخر غير الزمان الذي وردت فيه، ليخْلُصَ إلى أن هذه الخطط بغاياتها وأساليبها إنما هي نقل للأساليب ولما فعله غيرنا بتراثهم الديني، مضيفاً أن علاقتنا بتراثنا الديني لا تشبه في شيء علاقة الآخرين بتراثهم الديني، فتراثنا الديني فاعل باستمرار فينا. في معرض نقد د. طه لخيار نزع القداسة عن النص الديني المؤسّس عند المسلمين، يأتي ببديل قائم على رفع القدسية حيث يَجِب، ولذلك استبدلَ مكان هذا المقصد مقصداً أوسع منه وهو تكريم الإنسان، فإننا إذا كرمنا الإنسان فسترفع القدسية عن الاجتهادات التي لم تعد صالحة له. لا يمكن الحديث عن أعمال طه عبدالرحمن من دون اقتران فلسفة هذه الأعمال بالمرجعية الإصلاحية الأخلاقية. وهو يرى أنه ليس هناك باب في المعرفة الإسلامية أهمل مثلما أهمل باب الأخلاق، مُستشهداً ببعض رؤاه النقدية في هذه الجزئية الدقيقة - أي علماء أصول الفقه - كما جاءت في كتابه «تجديد المنهج في تقويم التراث» موضحاً فيه كيف أن هذا التصنيف الذي وضعه الأصوليون استمدوه من المتكلمين الذين كانت تسيطر عليهم تصورات مادية عقلانية، فقدموا - بسبب ذلك - في الضروريات المسائل التي تتعلق بالحياة المادية وألحقوا بها المصالح الحاجية، وقالوا إن الضروريات لا يستقيم بفقدها نظام الحياة، والحاجيات يجد الإنسان العنت من فقدها، وجاؤوا إلى مكارم الأخلاق ووضعوها في باب التكميليات أو التحسينيات. وهذا خطأ منهجي وشرعي: 1- الخطأ الشرعي: لأن هذا يُخالف تماماً نص الحديث الصريح الذي يقول: «إنما بُعِثتُ لأتممَ مكارمَ الأخلاق»، فلا يمكن أن نتصور أن الإسلام كان مقصوراً على التحسينات، وكان محصوراً في أفعال زائدة عن الأفعال الحاجية والأفعال الضرورية؛ 2- الخطأ المنهجي: لأن التقسيم الذي وضعوه من الناحية المنطقية فيه أخطاء كثيرة، من جملتها أنه لا يستوفي شرط الحصر. فقالوا المصالح الضرورية هي حفظ المال وحفظ العقل... الخ، ولكن يمكن أن نضيف إليها العدل وحفظ العرض، كما أنه تقسيم لا يتوافر على شرط الحصر، ثم التباين. نختتم هذا العرض بالتوقف عند مواقف طه عبد الرحمن من واقع التفلسف في المجال التداولي الإسلامي العربي، لنقل إننا سنستشهد بجزئية واحدة من مشروع علمي يتبناه المحاوَر ضمن مشاريع أخرى: مشروع «فقه الفلسفة» الذي صدر منه حتى الآن كتابان اثنان»: «فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة» و «فقه الفلسفة: القول الفلسفي»، ويُلاحظ د. طه في هذا الصدد أن الفلسفة العربية لم تكن قط مُبدعة، لا قديماً ولا حديثاً، والأدهى من ذلك أنها حديثاً هي تشويه للفلسفة وليس تقليداً لها. فلا يمكن أن يجتمع في الفيلسوف التقليد والفلسفة، فالفلسفة أصلاً اجتهاد وحينما نقول «تأمل» و «نظر»، فالكلمتان تفيدان معنى الاجتهاد. فأي فلسفة منقولة من غير أن يحصل صاحبها أسباب إنتاجها أو يحصل الأدلة عليها، فهي عمل منقول لا يفيد في إنتاج الفلسفة ولا في خلق فضاء فلسفي عربي، ليَخلُصَ إلى ما أشار إليه في أكثر من مناسبة (كتب، محاضرات، حوارات...) إلى أن الفلسفة العربية إلى يومنا هذا تُصَنّف في إطار الفلسفة المُقلّدة: إنها ليست فلسفة بل هي نقيض للفلسفة. لأن التقليد هو نقيض الفلسفة. طه عبدالرحمن
مشاركة :