أشرنا في مقالاتنا السابقة إلى حقيقة تاريخية هي رفض الإسلاميين للحداثة الغربية على أساس أن الإسلام يقدم نموذجاً حضارياً متميزاً لا يحتاج إلى استعارة الأفكار الغربية لتحقيق التقدم. إلا أن تطورات الأحداث في العالم العربي في العقود الأخيرة من القرن العشرين أدت إلى تغيرات كبرى في هذا الموقف الإسلامي التقليدي. ولعل أبرز هذه التغيرات هو قبول الإسلاميين فكرة الديموقراطية كنظام سياسي بعدما كانت تنعت بأنها «بدعة غربية»، وعلى أساس أن في نظام «الشورى» في الإسلام ما يغني عنها. وإذا أضفنا إلى ذلك قبولهم الدخول في الانتخابات البرلمانية - كما حدث في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك في مصر ونجاح جماعة «الإخوان المسلمين» في الحصول على أكثر من ثمانين مقعداً - فإن في ذلك إشارة واضحة إلى تطورات سياسية في استراتيجية تيار الإسلام السياسي في ما يتعلق بالاستيلاء على السلطة بالعنف لتأسيس الدولة الإسلامية التي تطبق الشريعة. غير أنه، بالإضافة إلى هذه التطورات السياسية البالغة الأهمية وأهمها ما حدث بعد ثورة 25 يناير في مصر وحصول حزب «الحرية والعدالة» على الأكثرية في مجلسي الشعب والشورى بالإضافة إلى تولي الدكتور محمد مرسي الرئاسة، إلا أن ثمة تطورات فكرية بالغة الأهمية حدثت في مجال الرفض الإسلامي التقليدي للحداثة الغربية. فقد ظهرت على يد الدكتور طه عبدالرحمن الفيلسوف المغربي أول محاولة لتأسيس حداثة إسلامية. وقد نشر نتائج هذا المشروع الفكري الطموح في كتابه «روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية» (بيروت - المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية، 2009). وكان منطقياً أن يبدأ الدكتور طه عبدالرحمن كتابه في ما أطلق عليه «المدخل التنظيري العام: روح الحداثة وحق الإبداع» لكي يناقش في فقرتين أساسيتين: أولاً خصائص روح الحداثة، وثانياً كيفية الانتقال من الحداثة المقلدة إلى الحداثة المبدعة. وكنا في مقالاتنا الماضية اهتممنا في بداية عرضنا لهذا المشروع الفكري الجسور بعرض أسس الحداثة الغربية، ولم نكتف بذلك بل تتبعنا ما أغفله الدكتور طه عبدالرحمن، وهو الانتقال من الحداثة إلى ما بعد الحداثة، وهي الحركة الفلسفية الكبرى التي وجهت سهام نقدها إلى أسس الحداثة الغربية الكلاسيكية وقدمت رؤى مغايرة لها تماماً. ونريد اليوم أن نعرض للطريقة التي شرح بها الدكتور طه عبدالرحمن خصائص روح الحداثة لأنه بناء عليها سنعرف هل نجح أم فشل في محاولة تأسيس حداثة إسلامية تستند إليها. ويلفت الدكتور طه عبدالرحمن نظرنا في مقدمة كتابه المهم إلى الأسباب التي دعته إلى صياغة حداثة إسلامية، وهو بعد أن يقرر بحق أن هناك أنواعاً متعددة من الحداثات كالحداثة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أن الفكرة المحورية التي يركز عليها في المقدمة هي أن الحداثة الإسلامية التي يحاول صوغ نظرية متكاملة بصددها هي «حداثة ذات توجه معنوي بديلة عن الحداثة ذات التوجه المادي التي يعرفها المجتمع الغربي». وأيا كان رأينا في موضوعية هذه التفرقة فإن أهم من ذلك الآن أن نعرض كيف فهم وشرح الدكتور طه عبدالرحمن أسس الحداثة الغربية. ومن الطريف أنه في معرض عرضه لهذه الأسس يقرر أن تعاريف الحداثة الغربية تقع في تهويل هذا المفهوم حتى تبدو الحداثة وكأنها كائن تاريخي عجيب يتصرف في الأحياء والأشياء كلها تصرف الإله القادر بحيث لا راد لقدره. والحال أن هذا التصور للحداثة تصور غير حداثي لأنه ينقل الحداثة من رتبة مفهوم عقلي إجرائي إلى رتبة شيء وهمي مقدس. ومهما كان الأمر فإن الدكتور طه عبدالرحمن يحدد مبادئ روح الحداثة في ثلاثة أساسية هي: مبدأ «الرشد» ومبدأ «النقد» ومبدأ «الشمول». ويتحدث المؤلف أولاً عن مبدأ «الرشد» ويقول إنه ترجمة للمصطلح الإنكليزي principal of majority وهي ترجمة تحتاج في الواقع إلى تدقيق. ويرى «أن الأصل في الحداثة الانتقال من حال القصور إلى حال الرشد» والمقصود هنا - كما يقول - أن القصور هو اختيار التبعية للغير وقد تتخذ هذه التبعية أشكالاً مختلفة. ويحددها في التبعية الاتباعية والتبعية الاستنساخية والتبعية الآلية. أما «التبعية الاتباعية» فهي «أن يسلم القاصر قياده عن طواعية لغيره ليفكر مكانه حيث كان يجب أن يفكر هو نفسه». في حين أن «التبعية الاستنساخية» هي «أن يختار القاصر بمحض إرادته أن ينقل طرائق ونتائج تفكير غيره وينزلها بصورتها الأصلية على واقعه وأفقه». ونصل أخيراً إلى «التبعية الآلية» وهي أن ينساق القاصر من حيث لا يشعر إلى تقليد غيره في مناهج تفكيره ونتائجه لشدة تماهيه مع الغير. ويرى طه عبدالرحمن أن مبدأ «الرشد» يقوم على ركيزتين أساسيتين أولهما «الاستقلال»، بمعنى أن الإنسان الراشد يستغني عن كل وصاية في ما يحق له أن يفكر فيه ويصرف كل سلطة تقف دون ما يريد أن يفكر فيه. والركن الثاني هو «الإبداع» بمعنى «يسعى الإنسان الراشد إلى أن يبدع أفكاره وأقواله وأفعاله وكذا أن يؤسس هذه الأفكار والأقوال والأفعال على قيم جديدة يبدعها من عنده أو على قيم سابقة يعيد إبداعها حتى كأنها قيم غير مسبوقة». وإذا كان مبدأ «الرشد» هو المبدأ الأول من مبادئ الحداثة الغربية - كما يرى طه عبدالرحمن - فإن المبدأ الثاني هو مبدأ «النقد». يقول إن «مقتضى هذا المبدأ هو أن الأصل في الحداثة هو الانتقال من حال الاعتقاد إلى حال الانتقاد. والمراد بالاعتقاد هنا هو التسليم بالشيء من غير وجود دليل عليه، ومقابله هو الانتقاد «فيكون حده هو المطالبة بالدليل على الشيء كي يحصل التسليم به». وفي رأيه أن مبدأ النقد يقوم على ركيزتين أساسيتين: الأول هو «التعقيل» أو «العقلنة»، والمراد بالتعقيل هو إخضاع ظواهر العالم ومؤسسات المجتمع وسلوك الإنسان وموروثات التاريخ كلها لمبادئ العقلانية، ويشرح أن هذه المبادئ تقوم على الحساب والتنبؤ والتجريب والتيقن والتطبيق. وبفضل هذه المبادئ يمكن عبر الزمن تحقيق أشكال متعددة من التقدم والتطور في كل من العلوم الطبيعية والإنسانية، وكذلك في المجال الاقتصادي بعد ظهور «الرأسمالية» التي تقوم على فكرة حرية السوق، بالإضافة إلى التطور الضخم في مجالات العلم والتكنولوجيا التي أصبحت هي التي تخطط استراتيجية البحث العلمي. أما الركن الثاني من أركان مبدأ النقد فهو «التفصيل» Differentiation أي «نقل الشيء من صيغة التجانس إلى صيغة التغاير. وتبدو أهمية هذا الركن في الشبكة الواسعة للمؤسسات التي ظهرت في سياق الحداثة الغربية، بالإضافة إلى أشكال الحياة الجماعية والفردية... وذلك كالتفصيل في ميدان المعرفة بين دوائر العلم والقانون والأخلاق والفنون، وكذلك التفرقة في ميدان الثقافة بين دوائر القيم النظرية والقيم العملية والقيم الرمزية، والتفرقة بين الأنماط المختلفة للمجتمعات. وقرر طه عبدالرحمن في ملاحظة بالغة الأهمية أنه يمكن أن ندخل في ركن النقد فصولاً أخرى اقتربت من الحداثة مثل ذيوع مبدأ «العلمانية» وهو الفصل بين الدين والدولة، والفصل بين الدين والأخلاق، والفصل بين الدين والعقل، والفصل بين الأخلاق والسياسة. ويبقى المبدأ الثالث من مبادئ الحداثة وهو مبدأ الشمول أو العمومية universality ومقتضاه هو أن الأصل في الحداثة هو الإخراج من حال الخصوص إلى حال الشمول سواء في ذلك خصوص «المجال» أو خصوص «المجتمع» ومن هنا وجهة نظر دعاة الحداثة الغربية في أهمية «التوسع» في نشر أفعال الحداثة لتصل إلى كل مجالات الحياة، وضرورة التعميم بمعنى ألا تبقى الحداثة مرهونة بحدود المجتمع الذي نشأت فيه، ومن هنا أهمية أن «تترحل» قيمها إلى كل المجتمعات المعاصرة. هكذا شرح طه عبدالرحمن مبادئ الحداثة الغربية. * كاتب مصري
مشاركة :