من «فقاعة إعلامية» كان يتوقع لها أن تنفجر في أي لحظة، تحول إيمانويل ماكرون، وزير الاقتصاد السابق الذي استقال من حكومة مانويل فالس الصيف الماضي، ليكرس جهوده لترشحه للانتخابات الرئاسية، إلى «بعبع» يخيف منافسيه يمينا ويسارا. يوما بعد يوم وأسبوعا وراء أسبوع، يصعد نجم إيمانويل ماكرون «الابن المدلل» للرئيس فرنسوا هولاند الذي يعود له الفضل في أن جعل من هذا الشاب البالغ من العمر 38 عاما عقب فوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2012 أمينا عاما مساعدا للرئاسة، ليعمد بعد عامين إلى تنصيبه وزيرا للاقتصاد. وحتى الخريف الماضي، كان هولاند يرد على الذين يحذرونه من ماكرون، أن الأخير يعرف كم هو مدين للرئيس، وبالتالي «لن يقدم على خيانته» بالخروج من الحكومة، والأسوأ من ذلك إعلان ترشحه للرئاسة من خارج الحزب الاشتراكي واليسار. لكن ماكرون، الذي يطلق عليه في أوساط الحزب الاشتراكي اسم «بروتوس»، لم يتردد في ذلك. وبعد أن كان قد أطلق في الربيع الماضي حركته السياسية المسماة «إلى الأمام» عمد أولا إلى الخروج من الحكومة، ولاحقا إلى إعلان ترشحه للرئاسة «لغض النظر عما يقرره هولاند». وأصبح اليوم واضحا أن ترشح ماكرون كان أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الرئيس الفرنسي إلى إعلان، بداية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عزوفه عن الترشح لولاية ثانية. وبذلك، يكون هولاند أول رئيس في الجمهورية الفرنسية الخامسة، من أصل سبعة رؤساء، الذي يمتنع عن السعي لولاية ثانية، ليس تعففا ولكن بسبب عدم تيقنه من أن يخرج منتصرا من المنافسة الداخلية. وقد هبط قراره سمنا وعسلا على رئيس الحكومة مانويل فالس الذي كان آخر من غرس سكينا في ظهر هولاند لقطع الطريق عليه بحجة إنقاذ اليسار من الهزيمة. قبل أربعة أشهر من الاستحقاق الرئاسي، يبدو المشهد السياسي الفرنسي كالتالي: اليمين الكلاسيكي اختار مرشحه بشخص رئيس الوزراء السابق فرنسوا فيون الذي أزاح من دربه رئيسا سابقا «نيكولا ساركوزي» ورئيس وزراء أسبق «آلان جوبيه» كانت كل استطلاعات الرأي توقعت فوزه. وعلى أقصى اليمين، تتربع مرشحة الجبهة الوطنية مارين لوبان التي تمني النفس بأن تتفوق على والدها جان ماري لوبان، الذي تأهل في عام 2002 للدورة الثانية من الانتخابات الرئاسية متقدما على المرشح الاشتراكي ليونيل جوسبان. لكنه أخفق في التغلب على المرشح جاك شيراك. وفي أقصى اليسار، ما زالت أسهم المرشح جان لوك ميلونشون، مرشح حركة «فرنسا المتمردة» التي تضم «حزب اليسار» والشيوعيين واليسار الاشتراكي الجديد وبعضا من البيئويين إلى ارتفاع. وسبق لميلونشون أن ترشح في عام 2012، وحل في المرتبة الرابعة بحصوله على 11.1 في المائة من الأصوات في الدورة الأولى. يبقى اللاعب الرابع، وهو الحزب الاشتراكي الذي يخرج ضعيفا بعد خمس سنوات من ممارسة السلطة بسبب الخيبات التي حلت بناخبيه، وتراجع شعبيته وتضاؤل محازبيه، خصوصا انقساماته الداخلية. ولعل أفضل دليل على ذلك، أن ثلاثة وزراء ورئيس حكومة سابقين يتنافسون للفوز بترشيح الحزب. كذلك، فإن مانويل فالس ليس متيقنا من أنه سيكون الفائز في هذه المبارزة التي شهدت ليل أول من أمس أول مناظرة تلفزيونية بين المرشحين السبعة. في إطار هذه الصورة المركبة، وفي غياب اسم المرشح الاشتراكي، نجح ماكرون في إرساء وتحصين مواقعه رغم غياب حزب يدعمه وبرنامج انتخابي متكامل يدافع عنه. لكن هذا الشاب الذي وصل إلى السياسة من عالم المال والمصارف بعد أن كان موظفا في سلك التفتيش المالي، أصبح اليوم يحسب حسابه. فقبل ثلاثة أسابيع نجح في اجتذاب ما لا يقل عن 15 ألف شخص إلى مهرجان انتخابي في باريس. وخلال تنقلاته المتواصلة بين المدن الفرنسية، يبدو واضحا أن ماكرون «الجديد» يثير اهتمام الناس، وأخذت تتكون حوله كتلة من النواب والسياسيين تراهن عليه وعلى مستقبله السياسي. ويفيد آخر استطلاع للرأي بأن ماكرون أخذ يحتل الموقع الثالث بعد المرشحين الأولين فرنسوا فيون ومارين لوبان «ما بين 26 و24 في المائة من الأصوات» فيما يستطيع ماكرون الحصول على نسبة تتراوح ما بين 16 و20 في المائة. أما مرشح اليسار المتشدد ميلونشون، فإنه يحل في الموقع الرابع. والمهم في نتائج هذا الاستطلاع، أنه يدل على أن المرشح الاشتراكي مهما تكن هويته لن يكون قادرا على التأهل للدورة الثانية في الانتخابات الرئاسية؛ ما يعني تغير صورة الحياة السياسية في فرنسا التي قامت على يمين كلاسيكي من جهة بمواجهة يسار معتدل واشتراكي من جهة ثانية. وتبدو الصعوبة الكبرى بالنسبة للمرشح الاشتراكي، أن ماكرون يزاحمه عن يمينه بينما ينافسه ميلونشون عن يساره. ووفق استطلاع آخر للرأي، يبدو أن لماكرون حظا للوصول إلى الجولة الرئاسية الثانية إذا أخفق مانويل فالس بالفوز بترشيح حزبه وحل محله مرشح مثل أرنو مونتبورغ أو بونوا هامون، وهما من يسار الحزب. وما يدل أيضا على شعبية ماكرون المتصاعدة، أنه أخذ يحتل المرتبة الأولى بين الشخصيات السياسية المفضلة للفرنسيين؛ إذ يحصل على 39 في المائة من الأصوات، بينما فرنسوا فيون يخسر 10 في المائة لتتراجع نسبة المؤيدين له إلى 31 في المائة. هكذا تحول ماكرون من منافس ثانوي ومن وافد جديد على عالم السياسة إلى فلتة الشوط التي ينظر إليها الآخرون بكثير من القلق والارتياب؛ مخافة أن يستمر على انطلاقته، وأن تكون الأشهر الأربعة الفاصلة عن الاستحقاق الرئاسي فرصة له ليزيد من تجذره السياسي، محدثا بذلك زلزالا حقيقيا في الحياة السياسية الفرنسية.
مشاركة :