طغت رواية «الدكتور جيفاكو» على سائر أعمال الشاعر الروسي بوريس باسترناك حتى بات يعرف بها، وكادت تجربته الأدبية الرائدة تُحصر في هذه الرواية التي شغلت العالم، لا سيما في مرحلة الحرب الباردة. والشهرة التي حظيت بها الرواية سبقت قراءتها كعمل أدبي عظيم بعد منعها لأعوام طويلة في روسيا ثم بعد توظيف النظام الأميركي «قضيتَها» في صراعه مع الشيوعية والاتحاد السوفياتي تحديداً. غير أن هذه الراوية الرهيبة سرعان ما تخطت حواجز الصراع السياسي والاستخباراتي العالمي وفرضت نفسها بصفتها واحدة من أبرز روايات القرن العشرين التي دخلت «متحف» الأعمال الكلاسيكية. وزاد من تكريس «أسطورتها» عالمياً الفيلم الذي استوحاه منها المخرج العالمي ديفيد لين العام 1965، وفيه أدى الممثل عمر الشريف دور الدكتور جيفاكو، وقد حقق نجاحاً كبيراً مع أنه لم يكن أميناً كل الأمانة على النص الأصلي. ولعل الفيلم ساهم في صرف القراء عنها وإذكاء كسلهم أمام عمل يتخطى السبعمئة صفحة ويضج بما لا يحصى من أحداث ووقائع ووجوه. أخطأ الاتحاد السوفياتي في منع الرواية وإخفاء مخطوطتها التي كان تقدّم بها باسترناك إلى مجلة «نوفي مير» الشهيرة العام 1956. وجدت فيها مجلة اتحاد الكتاب البولشفيك عملاً رهيباً مناهضاً لأيديولوجيا الحزب وللواقعية الاشتراكية التي كانت سارية حينذاك، ونقداً عميقاً ومضمراً للثورة، وكانت ذريعة لبدء اضطهاد صاحبها سياسياً. لكن الرواية اخترقت الحصار السوفياتي وصدرت في إيطاليا بالروسية العام 1957 في أوج الحرب الباردة ثم ما لبث أن نال باسترناك عليها جائزة نوبل بعد سنة. هذه القضية كُتب عنها الكثير وقبل بضعة أعوام صدر في الولايات المتحدة كتاب عنوانه «قضية جيفاكو» ألقى ضوءاً على الالتباس الكبير الذي أحاط بالرواية الشهيرة. وكشف مؤلفا الكتاب بيتر فين وبيترا كوفيه كيف أن الاستخبارات الأميركية وجدت في الرواية الممنوعة والمناهضة للنظام السوفياتي مادة دعائية ضد الشيوعية واكتشفت قدرتها على التأثير في الوجدان الروسي الشعبي، فراحت تطبعها بالروسية وتهربها بالسر إلى الاتحاد السوفياتي. ويشير الكتاب إلى أن الاستخبارات الأميركية والبريطانية ساهمت في تحريض الأكاديمية السويدية على منح جائزة نوبل إلى الكاتب الروسي الذي كان مجهولاً عالمياً قبل صدور «الدكتور جيفاكو». كل هذه الإشاعات والدسائس سقطت طبعاً مع صعود حركة البيريسترويكا وتداعي الجدار السوفياتي العام 1985 وانتشرت الرواية الممنوعة في روسيا قاطبة وسرعان ما ترجمت إلى لغات الجمهوريات السوفياتية كافة وصعد نجمها واحتلت قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. سقط الحصار الأيديولوجي الذي ضُرب حول «الدكتور جيفاكو» في روسيا وسقطت في الغرب أيضاً فكرة توظيفها سياسياً وبقيت الرواية عملاً ملحمياً فريداً ونموذجياً، يغوص في آلام الشعوب السوفياتية التي عانت التهجير والقتل والجوع تحت شعار الثورة والدفاع عنها، ثم في خضم الحرب العالمية الأولى. وإذا عُدَّتْ «الدكتور جيفاكو» من كلاسيكيات الرواية العالمية المعاصرة، فهي كانت سباقة في الدمج بين السيرة الذاتية والسرد التاريخي، وقد يكون بطلها، يوري جيفاكو نفسه، إحدى الشخصيات التي مهدت لنشوء صورة البطل الوجودي كما تجلت لاحقاً في أعمال طليعية. ومعروف أن باسترناك شاء بطله نسخة عنه وجعل منه شاعراً يقع في الختام ضحية القدر العبثي. كيف نقرأ «الدكتور جيفاكو» بعد ستين عاماً على صدورها؟ لا تزال هذه الرواية تحافظ على عظمتها وفرادتها الجمالية والفنية والتقنية، وتركت أثراً بالغاً في روايات وروائيين كبار. ولا تزال راهنة أيضاً في تناولها الثورة وارتداداتها، لا سيما في مرحلة الثورات التي يشهدها العالم والعالم العربي، وقد نجد فيها نحن القراء العرب مرآة للمآسي التي بلغت شأوها في سوريا والعراق وليبيا واليمن وفلسطين. وما يعنينا تعييناً هو القدر الذي دفع بالثورات إلى التآكل والانهيار وإلى الانقسام والتشظي بعد دخول الأصوليين والتكفيريين رحابها وتدمير أهدافها النبيلة وفق خطط وضعتها الأنظمة الدكتاتورية والطائفية والمذهبية على مرأى من الغرب. إنها المقاربة التي يمكننا نحن العرب أن نستعيد من خلالها سياسياً هذه الرواية العظيمة، ناهيك طبعاً عن جمالياتها وعمقها ولغتها البديعة التي هي لغة شاعر كبير هو باسترناك. ربما ظلمت «الدكتور جيفاكو» برواجها العالمي باسترناك الشاعر وحالت دون ترجمة أعماله الشعرية الرائدة ودون قراءتها خارج اللغة الروسية، ما خلا بضع ترجمات، فباسترناك هو أولاً وآخراً شاعر، شاعر كبير ورائد، أسس مدرسة في الشعر الروسي كانت خير وارثة للرومانطيقيين والرمزيين والمستقبليين الذين كان ماياكوفسكي في طليعتهم. ودواوينه الكثيرة ترسخ تجربته التي يلتئم فيها المعطى اللغوي والأسلوبي والعمق الفلسفي والبعد التجريبي. وكتبت الشاعرة الكبيرة مارينا تسفتياييفا تقول عنه: «نحن نسقط في شعر باسترناك، نقع تحت تأثيره، نغرق فيه».
مشاركة :