واشنطن: فيليب كينيكوت جاء تقليد حفلات القسم الرئاسي الحديثة ليسلط الأسبوع الماضي ضوءا غير مستحب على متحف «سانت لويس للفنون». فمنذ حفل القسم الرئاسي الثاني للرئيس السابق رونالد ريغان عام 1985، عرضت لوحة زيتية لفنان أميركي في خلفية حفل الغداء الرسمي الذي أقامه أعضاء الكونغرس ترحيبا بالرئيس الجديد. وعندما يجرى تنصيب دونالد ترامب كرئيس رقم 45 للولايات المتحدة في 20 يناير (كانون الثاني) الجاري، سوف تعرض لوحة الفنان جورج كاليب بينغهام «حكم الشعب» بعد أن وقع عليها الاختيار لتوضع على جدار خلف الطاولة الرئيسية بـ«كابيتول ستأتيوري هول»، أو قاعة التماثيل الوطنية بواشنطن، حيث يقام الحفل. انتهى الفنان، الذي اشتهر بلوحاته التي تجسد مشاهد مستوحاة من نهر الميسيسيبي، من تلك اللوحة عام 1855، وجميعها حوت رسومات حول فيها الفنان طبيعة المكان القاسية وغير المنتظمة وحتى وحشية الغرب إلى أماكن أسطورية ساكنة في انتظار من ينميها ويستثمرها، لتصبح فيما بعد جزءا من الحياة السياسية الأميركية. تظهر لوحة «حكم الشعب» أعدادا غفيرة من الناس، بعضهم يحتفل والبعض الآخر متذمر، من نتائج الانتخابات ببلدة ميسوري، وتعد اللوحة واحدة من ثلاث لوحات زيتية كبيرة رسمت على القماش في الخمسينات من القرن التاسع عشر، جميعها عكس معنى واحدا وهو حكم الشعب لنفسه بصورة ديمقراطية. استمرت اللوحات تعرض بـ«متحف سانت لويس للفنون» منذ عام 2001، وجميعها ملك للمتحف. غير أن المشاعر المعادية لترامب في الأعمال الفنية زادت بصورة كبيرة للدرجة التي دفعت اثنان من الفنانين المقيمين بمنطقة سانت لويس، هما المؤرخ الفني أيفي كوبر، والفنان إيلين بيرمان، لشن حملة لمنع ظهور لوحة الفنان بينغهام بحفل العشاء المقرر إقامته على شرف ترامب. وجمعت الحملة التي أطلقها الفنان على موقع change.org نحو 3000 توقيع جميعها يعارض استخدام لوحات فنية للإيحاء بأن انتخاب ترامب جاء بناء على «حكم الشعب» لأن غالبية الأصوات منحت لمنافسه. غير أن متحف سانت لويس لم يتراجع عن التزامه بإرسال اللوحة إلى واشنطن، حيث إن محاولات منع إرسالها ليست سوى مناوشات بسيطة وغير منظمة بدأت قبل الانتخابات من قبل بعض الفنانين والعلماء، والمواطنين تهدف إلى مقاطعة إدارة ترامب والتعبير عن ذلك من خلال الأدب والفن. واكتسبت حملة جمع التوقيعات أهمية كبيرة بعد أن لفتت الأنظار لأهمية قطاع الفن في البلاد، ولكون تلك اللحظة تمثل اختبارا لفعالية الضغوط التي يمكن أن يمارسها الفن والمؤسسات الفنية الأميركية. وبعد الانتصار المفاجئ الذي حققه ترامب في الانتخابات يوم 8 نوفمبر (تشرين الثاني) وجد متحف سانت لويس نفسه في موقف محرج. ففي شهر يوليو (تموز)، تساءل السيناتور روي بلونت، عضو الحزب الجمهوري عن ولاية ميسوري، عن إمكانية استعارة اللوحة للعرض خلال حفل الغذاء الرسمي، وبوصفه رئيس «اللجنة المشتركة لحفلات القسم الرئاسي» بالكونغرس، عمل بلانت على الإعداد لهذا الحدث المقرر في يناير الحالي قبل أن يعلم اسم الفائز في الانتخابات. وبالفعل أرسل طلبا رسميا موقعا من قبل اللجنة التي تضم ممثلين عن الحزبين لاستعارة اللوحة في سبتمبر (أيلول) الماضي ولم يحصل على موافقة رسمية من قبل إدارة المتحف حتى 6 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، إلا أن هذا الخطاب يعد إجراء شكليا، بحسب برنيت بنجامين، مدير المتحف. وفكرة استخدام اللوحة لا تعدو كونها أحد مظاهر الاحتفال. فبعد حفل قسم الرئيس ريغان للمرة الأولى، قرر المنظمون تقسيم منطقة الطعام خلف طاولة الرئيس لتجنب الارتباك والحيرة في تحديد الأماكن، بحسب لورا كوندولسي، مدير الاتصال بـ«لجنة حفلات القسم الرئاسية» بالكونغرس. وتقرر وضع جدار فاصل بصفة مؤقتة في حفل ريغان، وفي حفل القسم الرئاسي الثاني بعد أربع سنوات وضعت لوحة الفنان جاسبر فرنسيه «الخريف على ضفة نهر هودسون» كديكور. وكل أربع سنوات يجرى اختيار لوحة مختلفة، وأحيانا تجري استعارتها من مجموعات من خارج المدينة لتزيين الجدران الفاصلة. غير أن لوحة العام الحالي كسرت القاعدة، إذ إنها ليست مثلا بورتريه لأحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة أو لمنظر طبيعي خلاب كما كان الحال في اللوحات السابقة، بل لوحة تحمل مغزى سياسيا حيث تصور إحدى أكثر اللحظات قتامة في التاريخ الأميركي. وعلى الرغم من العنوان «حكم الشعب» ورغم تعبيرات البهجة على وجوه الكثيرين في الصورة، فقد أراد بينغهام أن يعكس لحظة يأس في حياة أمته وفي السياسة الأميركية بصفة عامة. غير أن البيان الصحافي الصادر عن «لجنة احتفالات القسم الرئاسي» بالكونغرس والذي أعلن عن اختيار لوحة بلانت نظر للأمر بصورة مختلفة باعتبار اللوحة تعكس «صورة شاملة». فالجميع هنا؛ المزارعون الأثرياء، والعمال، والتجار، والمهاجرون، والمحاربون، والنساء، والأفارقة الأميركيون، كلهم ظهروا في الصورة، فمنهم المبتهج، والمكتئب، والمرتبك، والمجادل، والمرح والجاد، جميعهم في الصورة. ومن شأن استخدام اللوحة بحفل القسم الرئاسي أن يثير مشكلة سيواجهها خصوم الرئيس الجديد، فهل المقصود إثارة حالة من التخبط الثقافي؟ هل المقصود استفزاز الحضور بجعلهم يعتقدون أن هذا الاختيار جاء متعمدا؟ ففي الوقت الذي يستطيع فيه الرئيس الجديد الكذب في ظل تمتعه بحصانة، على الرغم من وجود كل الأدلة الموثقة التي تثبت عكس ما يقول، فإن تسليط الانتباه على المشكلة المزمنة المتمثلة في عدم القدرة على قراءة لوحة ما لن يمر بسهولة. لكن هذه القصة قد تنطوي على أخبار سارة، فقد أبدى متحف سانت لويس تفهمه واستجابته للقلق الذي عبر عنه كل من الفنانين كوبر وبيرمان، وعليه فقد وعد مدير المتحف بلقائهما، ومن جانبه جاء رد كوبر في رسالة بالبريد الإلكتروني قال فيها «لا أتوقع إلغاء عملية استعارة اللوحة، لكنني ممتن كثيرا لأن المتحف وافق على الاستماع لما يقلقنا»، مما يمثل خريطة طريق لمعاهد الفنون المختلفة في هذه اللحظات الصعبة. وفي النهاية، فقد أتيحت الفرصة للوحة نفسها لكي تتحدث إلى جمهور أكبر، فربما لا يكون لبلانت حل ما لما ترمز إليه اللوحة، لكن شهرتها المحدودة قد تدعو آخرين للمشاركة بالتفكير المفعم بالشك. فالولايات المتحدة لم تمر من قبل بعصر ذهبي يجعلنا نتطلع لعودته، وشأن اللحظة التي جسدتها تلك اللوحة، فسيكون تفكيرنا ساذجا إن تصورنا أنه لا ضرر من استدعاء صورة أميركا في تلك الفترة.
مشاركة :