يطحن بالرحى ليقرأ كتابا بقلم: لطفية الدليمي

  • 1/18/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

كنت في صباي أهرّب الكتب التي يحضرها لي أبي من مكتبة القرية وأصدقائه إلى سطح البيت كل مساء. العربلطفية الدليمي [نُشرفي2017/01/18، العدد: 10516، ص(14)] 1 شغف القراءة الذي يتمكن من الظامئين للمعرفة، حالة تتمكن من عشاق الكتب كما يتمكن الهوى من المغرمين في قصص الحب العظيمة فلا يشغلهم سوى المعشوق ولا يفكرون إلا به، يقلقون ويبحثون ويتسقطون أخبار الكتب ويحلمون بالكتاب مثلما يتوق العاشق لقرب المحبوب فتجدهم يلاحقون الكتب في مظانّها ولدى مقتنيها وباعتها، يتفحصون فهارس الكتب وفصولها بعيون مبهورة وهم يغصون بالمتعة ويفيض العرفان من أرواحهم الظامئة التي ارتوت وعقولهم النهمة التي اغتذت من كنوز المعرفة. لم تكن الكتب ميسورة للشغوفين بها في الأرياف والقرى خلال النصف الأول من القرن العشرين وأواسطه بخاصة في بلداننا الفقيرة، وإن حظيت بعضها بمكتبات صغيرة فسوف يتحكم العوز وضنك العيش في الحصول على الكتاب المبتغى عندما تتقدم لقمة الخبز وجرعة الدواء في الأهمية على اقتناء كتاب لا يشبع جائعا ولا يشفي علة كما يرى المكافحون الذين بالكاد يتدبرون ما يقيمون به أود الأحياء. 2 يخبرنا مو يان الروائي الصيني الحائز على نوبل للآداب في حوار ترجمته له وظهر في كتابي “فيزياء الرواية وموسيقى الفلسفة” عن الحرمان من الكتاب واللقمة في الريف الصيني قائلا “كانت الكتب من الأشياء النادرة في الريف الجائع ولا نستطيع الحصول عليها، وكنا نحضر وجبتنا الوحيدة بطحن حبوب الذرة بالرحى الحجرية اليدوية، وصادف أنّ لأحد أصدقائي كتاب قصة مصورة “كوميكس” فكنت أذهب لأعمل عندهم بتدوير الرحى مقابل أن أقرأ القصة وكان صديقي يقرأ لي صفحة واحدة مقابل كل دورة لحجر الرحى، أو يتركني أقرأ فيها وأنا أدير الرحى.. وبعدها بدأت أجوب القرى المجاورة بحثا عن الكتب لدى من يملكونها فأمضي نهاراتي أقرأ في بيوتهم ثم أعود إلى قريتي مسحورا”. 3 كنت في صباي أهرّب الكتب التي يحضرها لي أبي من مكتبة القرية وأصدقائه إلى سطح البيت كل مساء، أرتقي السلالم متعجلة مثل سارقة فقد منعتني جدتي وأمي من القراءة على ضوء القمر خشية اعتلال بصري، كان سريري تحت ظل نخلة تنشر سعفها فوق أطياف رؤاي وشخوص قصصي التي أكتبها في دفاتري المدرسية وتتدلى عذوق تمرها لتكون في متناول يدي، كانت الحمائم تبني أعشاشها بين سعف النخلة كل ربيع وصيف؛ فكنت أقرأ مغمورة بنور القمر ويؤنسني هديل الحمام ويدهشني احتراق الشهب، وكنت إذا ما غاب القمر في محاقه، أعمد إلى اصطياد حشرات اليراعات المضيئة وأضعها في زجاجة مغلقة لتمسي مصباحا منيرا يرسل ومضاته في عتمة الليل، كانت اليراعات تنطلق من قلب ثمار التفاح الأبيض في البساتين القريبة من البيوت وتهيم في الليل معلنة عن نفسها بضوئها الفوسفوري غير آبهة بخطر القنص والموت مثلما يفعل المفكر وهو يبوح بفكرة غير مسبوقة تعرضه للمخاطر وإنزال العقاب لخروجه على مألوف ما اعتاده الناس. 4 عندما تعرضت سفينة روبنسون كروزو لعاصفة في المحيط وتحطمت على شاطئ جزيرة موحشة جمع كروزو من حطام سفينته بعض البقايا وعينات قليلة من الأطعمة ودواة حبر وأقلاما وبضعة كتب ولم يأبه أول الأمر لهذه الكتب، كان خائفا من الموت جوعا وسط العراء وعندما طمأنت بقايا الطعام التي عثر عليها حاجته للبقاء، التفت إلى الكتب القليلة التي وجدها في الحطام، ولم تكن به حاجة للتعلم قدر حاجته لطمأنة القلب فتح كروزو الكتاب و قرأ “لن أتركك وحدك ولن أتخلى عنك” فأدرك أن النداء موجه إليه ليشرع ببناء عالمه الجديد من تلك البقايا القليلة، بضع بذور وكتاب وبنادق، الحياة والكلمة والقوة. كاتبة من العراق لطفية الدليمي :: مقالات أخرى لـ لطفية الدليمي يطحن بالرحى ليقرأ كتابا, 2017/01/18 عطر الورق وميض الشاشات, 2017/01/15 تواصل أم تنافس؟, 2016/12/24 الجمال يلهم ولا يخدع , 2016/12/11 مربية اللص ومرضعة الملاك, 2016/11/30 أرشيف الكاتب

مشاركة :