ليس غريبا أن تجد أكثر المبدعين هم من الذين نجت قابلياتهم من القولبة التعليمية وإنما الغريب أن يتمكن بعض الذين تم إخضاعهم للبرمجة التعليمية سنوات طويلة أن يتحرروا من التنويم التعليمي، وكما يقول بول سالمون: (عندما أعيد النظر في كل التفاهات التي تعلمتها في المدرسة فإني أتعجب كيف أني مازلت أستطيع التفكير) ويتكرر التعبير عن هذا المعنى كثيرا من قبل قادة العلم والفكر من أمثال أفلاطون وآينشتاين وبرتراند راسل وآدم سميث وفيكو وفولتير وروسو وغيرهم. من رواد الفكر والعلم والفن فهذا القول يمثل الحقيقة التي تؤكدها نتائج التعليم في كل المجتمعات حيث تُنسى المعلومات ويبقى التفكير النمطي وهو أفظع عَطَب يصيب العقل. إن الناس يغفلون عن أن أبرز خصائص الإنسان هي قابليته للتعود والتبرمج والتسليم التلقائي للذين يحظون بالتبجيل والهيبة كالمعلمين والمرشدين، ومن يحاطون بهالات التعظيم وقد نتج عن هذه الغفلة أنْ صار الناس يهتمون بالمعلومات وما يؤدي إلى النجاح في الامتحانات ويتجاهلون الانغلاق الذي يصيب العقول والعطب الذي يصيب العواطف والأخلاق. حيث تتحدد الاهتمامات والاتجاهات أما النتيجة فهي الإمعية التي تُلغي التفرد وتدمر المجتمعات وكما يقول الفيلسوف برتراند راسل في كتابه (السلطان): (إن التعليم الصارم يخلق الطراز الذليل المستعبَد من الناس بقدر ما يخلق الطراز المتغطرس المستبد. ذلك لأنه يؤدي إلى الشعور بأن العلاقة الوحيدة الممكنة بين مخلوقَين من البشر هي تلك التي تكون في أن يُصدر أحدهما الأوامر، وأن يقوم الآخر بإطاعتها وتنفيذها) وبهذا الأسلوب التعليمي انطمست القابليات الفردية وتكَوَّنت قابليات الاندفاعات الجماعية العمياء حيث يندفع الناس من دون فحص ولا تحليل ولا تبصُّر وليس أخطر من ذلك على الأفراد والأمم والعالم. إن تنميط العقل بتصورات مغلقة يغتال القابليات ويطفئ الخيال ويسلب الفرد إمكانات التفرد ويحجب عنه عوامل الإفاقة من التنويم الاجتماعي وكما يقول المربي العالمي باولو فريري: (لا يوجد تعليمٌ محايد فهو إما للتدمير أو للتحرير) إن التعليم الجمعي إما أن يكون هدفه تكوين التبصُّر والتحرُّر أو تكوين الإمعية والتحجُّر وربما أن هذا هو الذي دفع نيتشه ليقول: (سيجيء وقتٌ يكون فيه عمل السياسة هو حلُّ مشكلات التعليم) إن هذه الأقوال لا تنطوي على أية مبالغة لأن العقل البشري يعمل انطلاقا من منظومة التصورات التي يعتادها ويتبرمج بها حيث يتم تطويع المعلومات طبقا للتصورات التي تَطَبَّع بها الذهن فالعقل لا يصير عقلا فرديًّا فارقا إلا إذا أصبح فاعلية نقدية يفحص ويتبصَّر ويغربل. بينما المناهج التعليمية تسير عكس ذلك فهي تكرس رؤية أحادية مغلقة ونهائية تخنق العقل وتنيمه وتوهمه بالتحقق، وكما قال الفيلسوف ديفد هارتمان: (الإطار الأحادي الجامد لا يصنع فكرا ناقدا. وحيث هناك حقيقة واحدة واضحة (كما هو شأن التعليم) فلا يوجد شيء يمكن أن تتحداه ولا يمكن توليد الشرارة للإبداع) فالعقل منظومة تصورات وهي تبقى ثابتة حتى يجري تحديها وإثارتها وكسْر انتظامها التلقائي الرتيب، وتختلف منظومات الأفراد التصورية باختلاف البيئات وبتنوع العوامل المؤثِّرة في قابليات كل واحد منهم فبمقدر استحكام القولَبة يصاب العقل بالعطالة وبمقدار تحرر قابليات الفرد من القولبة يكون قادرا على التفكير المستقل الناقد الفاحص فيملك التبصُّر الفردي الذي يرتقي بالإنسان من مستوى الاستجابة التلقائية إلى مستوى الوعي التحليلي القصدي كما أنه بهذا الانعتاق الاستثنائي يكون قادرا على الإبداع إذا كان مدفوعًا باهتمام تلقائي قوي مستغرق ويملك موهبة في مجال من مجالات الإبداع. لذلك لم يكن غريبا أن يكون المبدع الكبير تولستوي قد كره التعليم القسري ونَفَر منه واعتمد على نفسه لأنه يؤمن بأن قابليات الإنسان وطاقاته محكومة باندفاعه التلقائي فهو يؤكد دائما على أن الحرية شرطٌ للتعلُّم الناجع وقد كتب يقول: (إن الحرية شرطٌ لكل تعليم حقيقي) كما أنه يؤكد على أن الاندفاع التلقائي هو مصدر الإبداع ليس هذا فقط. بل يرى أن على المبدع أن يكفَّ عن الكتابة إذا استطاع التوقف لأن القدرة على التوقف دليل على أن الفكرة لم تستحوذ عليه استحواذًا كاملا فهو يقول: (إذا استطعتَ أن تمنع نفسك من تأليف كتاب ما فلا تكتبه) وهذا القول يتفق مع تأكيدات مبدعين عالميين آخرين كما أنه يتفق مع اكتشافات علم النفس حيث يقول العالم كارل غوستاف يونج: (الإبداع دافعٌ داخليٌّ يقبض ناصية الإنسان ويجعل منه آلته) فالإبداع هو نتاجُ الاندفاع التلقائي وليس الأداء الاضطراري إن هذا الاستحواذ معيارٌ صحيح تماما للقدرة الإبداعية فلن يكون مبدعا من يفتقر إلى هذه الطبيعة المندفعة تلقائيًّا. لكن الأكثر أهميةً أن استحواذ الأفكار الإبداعية على المبدعين وإلحاحها الحاد عليهم وإمساكها بهم وعدم إفلاتهم إلا بعد الإنجاز يعبِّر عن حقيقة مذهلة تأتي شاهدًا قويًّا على أن الإنسان كائنٌ تلقائي. فهو محكومٌ أساسًا بالتصورات التي تكوَّن بها عقله وتبلور بها وجدانه ثم هو محكومٌ بما يتفاعل بداخله من إفرازات وما يتأجج في أعماقه من أحلام وما يضطرم في نفسه من اهتمامات، وليس محكوما بمعلومات أو بتعاليم تَجَرَّعها قسرًا لذلك فإن الناقد عبدالرحمن شاكر يعلق على قول تولستوي فيقول: (يريد للكتاب أن يكون وليد فكرة ملحَّة تفرض نفسها على الكاتب وتأخذ عليه مجامع نفسه فلا يخلص من صداعها إلا بأن يمسك بقلمه ويكتبها) هكذا هو الإنسان تأتي تفاعلاته واستجاباته وردود فعله بشكل تلقائي فهذه الاستجابات التلقائية تحكمه وتتحكم به.. إن الكاتب المبدع يكتب بكل كيانه وتتجاوب معه كل خلية فيه وقد دوَّنَتْ زوجة تولستوي صوفيا في مذكراتها بأنه من شدة تأثُّره واستغراقه واستحواذ الموضوعات الإبداعية عليه كان: (يكتب في نشوة عارمة تتخللها الدموع) وهذا شاهدٌ قوي يؤكد أن العبقرية اهتمامٌ قويٌّ مستغرق وأن الإنسان لا يبدع إلا حين تستحوذ عليه فكرةٌ قوية آسرة مستغرقة.. إن ظاهرة استحواذ الأفكار الإبداعية على المبدعين هي ظاهرة بارزة بوضوح عند كثيرين منهم فهم يندفعون للأعمال الإبداعية اندفاعًا استحواذيًّا تلقائيًّا لا فكاك لهم منه وقد كَتَبَ المبدع الفرنسي فكتور هوجو يقول: (هناك شيء أقوى من كل جيوش العالم. ذلك الشيء هو فكرة جديدة حان ميلادها)، إن بزوغ فكرة إبداعية في رأس أي مبدع تأتي ضاغطة وملحة لا خلاص له منها إلا بإفراغها على الورق إنها تشبه حالة مخاض المرأة أثناء الولادة إنها حالة قاهرة وليست اختيارًا. ومن هذه الحالات الاستحواذية القاهرة التي لوحظتْ بوضوح عند كثير من كبار المبدعين جاء الربط الخاطئ الشائع بين الإبداع والعُصاب، أو الجنون إنه تشابهٌ ظاهري أدى إلى تفسير خاطئ للظاهرة وهو من الأخطاء الكبرى التي وقع فيها بعض علماء النفس وبعض المحللين النفسيين كفرويد وغيره. فالمبدعون هم ذروة العقل البشري فالتفسير الحقيقي هو أن هذا الاستحواذ يعود إلى أن الإنسان كائن تلقائي فيكون المبدع في حالة توقد شديد رغمًا عنه، إن طبيعة الإنسان التلقائية تجعل المبدع مندفعًا للإبداع اندفاعا حادًا وتلقائيا إن المبدعين يشبهون العناصر المشعة كاليورانيوم التي تستهلك نفسها بقوة وسرعة إن العصاب المرَضي حالة مستمرة أما الاستحواذ الإبداعي فهو طارئٌ ومؤقت ينتهي بتدوين الفكرة كحالة الحمل والولادة فهو ناتجٌ عن طبيعة الإنسان التلقائية فالإبداع شرطه الاضطرام ولقد كان تولستوي من أشد المبدعين اضطرامًا. إن هذا الاضطرام التلقائي هو الطاقة الإبداعية الفائرة التي جعلت تولستوي في مقدمة المبدعين العالميين وبهذا كانت روسيا ومازالت تَعتبر تولستوي من أعظم مفاخرها ويتكرر التعبير عن هذا الافتخار به من قادة الفكر والفعل. لذلك استاءوا حين انصرف عن مواصلة الإبداع في آخر حياته فالمعروف أن تولستوي في آخر عمره قد استحوذ عليه الاهتمام المستغرق بالفقراء والفلاحين فانشغل بهم عن مواصلة العمل الإبداعي وهو انصرافٌ قد أوجع الأفراد الواعين من أمثال المبدع المعروف تورجنيف فلم يمنعه أنه على فراش الموت من أن يرجو تولستوي بأن يعود إلى العمل الإبداعي فكتب إليه يقول: (كم كنتُ سعيدا بأن أكون عاصرتك إنني أكتب إليك لأطلب طلبًا أخيرا: عُد إلى نشاطك الأدبي أيها الكاتب الأكبر) تخيَّلْ إنسانًا على فراش الموت تكون آخر رسالة له تتضمن رجاءً لتولستوي بأن يستأنف العمل الإبداعي لأن ما يقوم به نحو الفقراء والفلاحين يمكن أن يقوم به آخرون كثيرون لكن لا أحد يحل محل تولستوي في مجال الإبداع.. ولم يكن الاهتمام بتولستوي محصورا بأبناء وطنه فهو مبدعٌ عالميّ فالاهتمام به يمتد بامتداد الاهتمام بالإبداع في العالم وليس ما كتَبَه عنه الكاتب البريطاني سومرست موم في كتابه (عشر روايات خالدة) سوى قطرة من نهر الاهتمام العالمي المتجدد إن موم قد ألَّف الكتاب بناء على طلب من مجلة أميركية والمعروف أن موم مبدعٌ وكاتب وناقد إنه روائي مشهور فهو يتحدث من داخل الفن الروائي العجيب، وقد أبرز هذا الناقد رواية (الحرب والسلام) لتولستوي بوصفها أعظم الروايات الخالدة يقول موم: (أعتقد أن رواية الحرب والسلام لتولستوي هي أعظم رواية. فلم يسبق أن كُتِبَتْ وأغلب الظن أن هذا لن يتكرر روايةٌ تضارعها في الضخامة، وتعالج مثل هذه الفترة الحاسمة من فترات التاريخ، وتتناول هذه المجموعة الكبيرة من الشخصيات. ولقد قيل عنها بحق: إنها ملحمة. ولا أستطيع أن أجد عملًا روائيًّا آخر يمكن أن نَصِفَه هكذا ونكون محقين في وصفنا) إنها رواية ضخمة تقع في أربعة مجلدات وقد استغرقت منه ست سنوات من العمل المتواصل والتفكير العميق والتساؤلات الفاحصة.. إن تولستوي يتخذ من الإبداع الروائي أداةً للإصلاح والتنوير وإشاعة الروح الإنسانية إنه يَبْسُط أفكاره ورؤاه عن الإنسان والتاريخ والأحداث والمجتمع والحضارة من خلال الفن الروائي. فالفن وسيلة تنوير وليس للمتعة فقط لذلك كان موقفه حازما وحاسما ضد دعوة الفن من أجل الفن فرغم أهمية العنصر الجمالي إلا أن الفن عنده ليس مطلوبًا لذاته وإنما يتم استخدامه من أجل المضمون الفكري والارتقاء الأخلاقي والنقد السياسي والإصلاح الاجتماعي والتآخي الإنساني.. إن روعة إبداع تولستوي وجماليات فنه كانت المنفذ الجميل الآسر للعقول والعواطف لقد أبدع إبداعًا تجاوز الذُّرَى وكما يقول كارول برات في كتابه (ثبات الأحكام الجمالية): (إن هناك اتفاقًا ساحقًا على أن (الحرب والسلام) لتولستوي هي أعظم رواية كُتِبَتْ على الإطلاق) ومع أن هذه الرواية هي إحدى إبداعاته لكنها بالتأكيد هي أهمها وهو بهذه الرواية وبأعماله الإبداعية الأخرى وبأفكاره ونظرياته يُعَدُّ من أبرز قادة الإبداع وقد لقي اهتمامًا عالميًّا فصار مقروءًا عند كل الأمم حيث تُرجمت أعماله لكل اللغات الحية وتجري دراسة إبداعاته وأفكاره والكتابة عنه في مختلف اللغات وقد أشار إلى شيء من ذلك بوريس ميلاخ في كتابه (عملية الإبداع والإدراك الفني) حيث يقول: (أما إذا تحدثنا عن الكاتب الكبير تولستوي فقد يبدو أن ما أنجزه علماء الأدب عندنا كفيلٌ بأن يُشَكِّل قاعدةً لموسوعته فهناك الأعمال الكاملة المشروحة لتولستوي وتقع في تسعين مجلدًا كما صدر سفْرٌ تاريخيٌّ كامل في مجلدين عن حياته وإبداعه وتم جمْع مادة أدبية ضخمة عن سيرته وإبداعه وعن صلات تولستوي بالأدب الروسي والعالمي وعن آرائه الفلسفية والجمالية وعن تأثيره على الفن وغيرها كما صدر ببلوغرافية ضخمة عن تولستوي وتم إنجاز أرشيف تولستوي المحفوظ بصورة ممتازة) إن المؤلِّف يَعتبر كل هذا ليس سوى تهيئة لعمل كبير شامل يليق بهذا المبدع العظيم.. إن تولستوي ليس فقط مبدعًا ولكنه مناضلٌ إنسانيٌّ عظيم فهو صاحب فكرة اللاعنف وقد أخذها عنه غاندي فجسَّدها عمليًّا وبها هزم بريطانيا فحرَّر الهند من الاستعمار. هكذا هم عظماء الرجال فبأفكارهم تُعمَر الأرض وينتشر الوعي وينكشف الشر إن تولستوي كان يكتب ويتأمل وفي ذهنه كل الحروب والمآسي البشرية التي يُلحقها البشر بالبشر لقد توقف متألمًا يفكر بالحروب التي أثارها نابليون وغيره خلال التاريخ وتساءل بحسرة: كيف يتسبب فردٌ واحد مثل نابليون في اندفاع الملايين من الناس في اقتتال فظيع* وكيف يندفعون لاقتراف أعمال تخريبية مدمرة؟ لقد أراد أن يثبت بأن التاريخ الإنساني لا يمكن أن يحركه أو يحدد مساره فردٌ من الناس مهما بلغتْ عظمته وهي قضية محورية معقدة تضاربت فيها الفلسفات وقد تَوَصَّلتُ فيها إلى نظرية أعتقد أنها حاسمة وفصَّلتُها في كتابي (الريادة والاستجابة) حيث تدل وقائع التاريخ واضطرابات الواقع على أن عقلية القطيع عند البشر وقابلية الناس للتضليل وسهولة التصديق حيث تأتي الاستجابة تلقائيًّا إذا كان الاستنفار في اتجاه يتفق مع التبرمُج السائد. إن هذه المكوِّنات السائدة عند كل المجتمعات هي التي مكَّنَتْ الأشرار المغامرين من إفساد الحياة الإنسانية وشحنها بالمآسي والاضطرابات فالانتظام في المعتاد هو الأصل عند كل الأمم لذلك فإن تغيير أي وضع اجتماعي إلى وضع مغاير لا يتحقق إلا بالتكامل بين فكرة عظيمة رائدة وقوة سياسية قادرة. أما عموم الناس فينقادون بشكل تلقائي فيما ألفوه وتبرمجوا به سواء كان باتجاه الخير أو في اتجاه الشر ولم تتغير عوامل الاستجابة إيجابًا أو سلبًا بعد تعميم التعليم لأن البنية الذهنية لكل فرد قد تشكلت في طفولته قبل ظهور وعيه فالتعليم يأتي لعقول قد تشكلت فيكون النمو والتضخم في ما يتفق مع البرمجة التلقائية أما المغاير من الأفكار والتصورات فيتم رفضه تلقائيًّا لذلك فإن الحضارة مازالت هشة فليس أصعب من التطور لكن ليس أسهل من التدهور.. برتراند راسل تولستوي نيتشه كارل غوستاف يونج فيكتور هوغو
مشاركة :