إن العالم مقبلٌ على تحول نوعي في التعليم بعد اكتشاف أضراره الفادحة في إغلاق القابليات الإنسانية العظيمة خصوصًا بعد أن صار توفير المعلومات أقل المهام التعليمية أهمية إن القابليات البشرية الفارغة المفتوحة التي يكون عليها كل مولود تجعل الأفراد متهيئين للتَّشَكُّل تلقائيًّا بالقوالب الثقافية والعادات الاجتماعية وطرائق التفكير السائدة ومعايير القبول أو الرفض ومنظومة القيم ومحاور الاهتمام فتتحدد بذلك رؤيتهم لأنفسهم وللعالم فرغم أنهم يتشكلون بهذه القوالب تلقائيًا ولم يكن لهم أي دور في هذا التشكُّل التلقائي فإنهم خلال حياتهم يظلون رغم ذلك يفخرون بالانتماء إلى القوالب التي صاغتهم والغبطة بها إنهم لا يدركون أنهم مختطَفون ذهنيًا ووجدانيًا وأن المعايير التي يحكمون بها على الأمور هي معايير قد تبرمجوا بها تلقائيًا فهم لا يبصرون إلا بواسطتها فبدلاً من أن يسعوا لتحرير أنفسهم من البرمجة التلقائية فإنهم يقاومون بضراوة عند محاولة تحريرهم من البرمجة التلقائية التي اختطفتهم.. إن الفرد بعد ولادته يتقولب بقوالب البيئة فيتشرب اللغة وطريقة التفكير وثقافة المجتمع فيصير مذابًا في المجموع ويبقى ولاؤه لهذه القوالب ولا يدرك أنه بذلك يبقى من دون فردية فهذا التقولب التلقائي مضادٌّ للانطلاق والتفرد واستقلال التفكير لذلك يكون الانفكاك منه نادرًا ندرةً شديدة وكلما امتد خضوع الفرد للتلقين والتأطير والتدجين والتعليم الجماعي تضاعفت سماكة وصلابة وقوة القوالب ورسَخَ التكيف وهيمن التعود وصار من المستبعد أن يفيق الفرد من غيبوبته الثقافية ليبصر بموضوعية ماهو خارج الكهوف التي اعتادها والمسارات التي تآلف معها والقوالب الذهنية والعاطفية التي تقولب بها لذلك تظل كل الشعوب وجميع الأمم تتناسل ثقافيًّا على امتداد القرون بحتمية حاسمة هي أشد من حتمية التناسل البيولوجي.. إن قابلية الإنسان للتبرمج والتعود عظيمة النفع لكنها أيضا فادحة الضرر لقد أدرك القلة النابهون من كل الأمم فداحة الأضرار التي تصيب الدارسين من استحكام عادات التفكير المدْرسي النمطي فحين تقول إيلين جيلكرست: ((كلُّ ماعليك فعْله لتعليم طفل هو أن تُعَلِّمه أن يقرأ وتتركه.. فكلُّ ماعدا ذلك هو غسيل مخ)) فإنها بذلك تُعبِّر عن رأي كثير من المهتمين الذين يؤكدون ضرر التنميط الذهني لأن فاعلية العقل إيجابيًّا مشروطة بالتحريك المستمر والتحدي المستفز والإثارة المتكررة وإلا أنامته العادات الذهنية المتحجرة فسلوك الإنسان ومسارات تفكيره ومعارفه ومهاراته ماهي إلا سلسلة من العادات التي تشبَّع بها تلقائيًّا أو قصدًّا ولكن الناس لم يدركوا أهمية العادات فانصرف اهتمامهم إلى المعلومات مع أن المعلومات لا تصير عتادًا فرديًّا جاهزًا حتى يمارسها الفرد ممارسة منتظمة كثيفة مصحوبة بالرغبة والمتعة وبذلك تتشبَّع بها الذات وتصير عادة راسخة مكتظَّة ينساب منها الأداء المعرفي والعملي انسيابًا تلقائيًّا... لذلك فإن الخطورة ليست محصورة فقط في تنميط الأذهان بواسطة التعليم الجماعي وإنما تستمر الخطورة في المجالات العملية فبسبب طبيعة الإنسان وقابليته التلقائية للتعود بما يكرر فعله وينتظم في ممارسته ولأن العقل يعمل وفق أنماط ونماذج تصورية فهو مرتَهنٌ بما اعتاده فإنه قد صار معروفًا لدى العلماء والمهتمين خطورة الأيديولوجيات المغلقة بل حتى خطورة الركون المطلق إلى الخبرة وضرر الثقة المطلقة بالخبراء لأن الأوضاع متغيرة بينما أن الخبرة متحجرة فالخبرة تثري مجالاً محصورًا محدَّدًا خلال مدة معينة لكنها تحجب حقائق ما هو خارج هذا المجال المحصور المحدَّد وتعوق الاستشراف إلى الآفاق الإبداعية المغايرة لأن كل شيء يتغير بسرعة أما الخبير فهو مسجون داخل قوقعة خبرته المحدودة لذلك تنهار شركاتٌ كبرى عريقة بسبب الانغلاق على الخبرة السائدة والتلكؤ في قبول التغيير وتنشأ شركاتٌ جديدة متوثبة لتصبح شركات كبرى مكتسِحة بسبب انفتاحها على الأفكار الخلاقة وعدم التحجر على الخبرة العتيقة وليست إنجازات بل جيتس وستيف جوبز وجاك ويلش وجيمس دايسون سوى نماذج لقادة التطور الذين حطَّموا القوالب وفتحوا الآفاق وبَهَروا العالم.. إن التطور الحضاري بعلومه وفنونه وتقنياته ونُظُمه وبكل ماهو خارقٌ للمألوف في زمانه ومكانه قد قام على الريادات الفردية الخارقة التي تخترق الحواجز وتنفكُّ من الأُطُر، لكن تعميم التعليم قد أنشأ في بعض المجتمعات مفاهيم خاطئة ورسَّخ تصورات مغلوطة عن طبيعة الإنسان وقابلياته وتلقائيته ومفارقاته وكفاياته وتَهَيُّئه تلقائيًّا للتكيف والتعود وقابليته التلقائية للجمود والإنسداد يضاف إلى ذلك أن التعلم قد أغفل الفروق الفردية الهائلة بين القلة المبدعة والكثرة المقلدة وغيَّب تنوع الظروف وتباين الاستجابات فصارت الألقاب التعليمية هي معايير الأهلية وغاب عن الكثيرين بأن هذه الأهلية محصورة بالتأهيل المهني ضمن نطاق ضيق بل شديد الضيق وأنه لا علاقة لهذه الألقاب بالمستويات الإبداعية فالتعليم الجمعي بكل مستوياته يحصر اهتمامه بتداول المعارف الجاهزة وتأكيد التصورات المستقرة أما الطفرات الإبداعية فلا تكون إلا خارج التأطير التعليمي بل إنها تأتي مضادَّة لما هو متداول ونافية لما هو سائد وبهذه الطفرات الخارقة للسائد تتطور الحضارة وتنمو المعارف وتتبدل التصورات وتتنوع الفنون وتتعقد التقنيات... ولو أننا أمعنا النظر في التحولات الحضارية وقرأنا قصص حياة الرواد والمبدعين لَظَهَرَ لنا بوضوح شديد أن الأفكار الخلاقة تمخَّضَتْ عنها عقول القلَّة المبدعة وأن الريادات تأتي خارقة للسائد ومتعارضة مع المألوف ومتجاوزة للعوائق وكما يقول نيتشة ((العبقريات وحدها تخترق الظروف)) إن الرائد يكون غريباً فريدًا أو كما يقول المبدع الفرنسي مالارميه: ((العبقري يعيش وحيدًا في بيئة لا تفهمه كأنه يعيش في المنفى)) وقد نبَّه لذلك عظماء كثيرون من أمثال اينشتاين وهيوم ووليم جيمس ولوك ومونتسكيو وبيكون وديكارت وآدم سميث وجوته وديدرو وكارليل وإيمرسون وغيرهم... إن الانتظام في السائد هو الأصل التلقائي مهما كان ذلك السائد واضح الخلل لغير الغارقين فيه ومهما كان بارز العوار لمن يهتمون به من خارجه ولا يتحقق الإفلات النسبي من هذا الانتظام الحتمي بجذوره العميقة واستحكاماته القوية وهيمنته المطلقة إلا بواسطة الريادات الفردية الخارقة والاستجابة الإيجابية الكافية لقد نَبَّه ديكارت إلى أن اكتشاف الحقائق مهمةٌ بالغة العُسْر وأن كشفها ليس متاحًا إلا لفئة قليلة من ذوي العقول النادرة الفذَّة التي تكون مسكونة باهتمام تلقائي قوي مستغرق كما لاحَظَ ديكارت أيضاً أن الإجماع ليس دليل الصواب وأن كثرة المؤيدين لا تدل على صحة الرأي أو الاتجاه أو الموقف فيقول: ((إن موافقة الكثرة ليست دليلاً على الحقائق العسيرة الكشف وإنه لأقرب إلى الاحتمال أن يجدها رجلٌ واحد من أن تجدها أمةٌ بأسرها)) إن الإمعان في البحث والاستغراق في التحقُّق من الخصائص الفردية ولا يمكن أن يتم بواسطة المجتمع أو الجماعات التي هي بطبيعة تكوينها تتنادى ضد المغاير وتستميت في الدفاع عما تتوارثه وما تبرمجت به وما هو سائد.. ومن هنا تأتي ضآلة دور التعليم النظامي في إحداث أي تغيير إيجابي في أي مجتمع تقليدي بل إن الهم الأساسي للتعليم في المجتمعات التقليدية هو تأكيد وتوطيد ما هو سائد وبذلك تتأكد خطورة تعويد العقول على القبول التلقائي والتصديق المطلق فتزداد انغلاقًا وذوبانًا في التيار العام المغتبط بانغلاقه، إن التعليم الجماعي يرسِّخ عقلية القطيع وكما يقول: الفيلسوف برتراند راسل: ((الحق أنه بالنظر إلى سُخف أغلبية بني الإنسان فإنه لأقرب إلى الاحتمال أن يكون الاعتقاد الواسع الانتشار اعتقادًا سخيفًا.. إن واقعة أن رأيًا قد انتشر على نطاق واسع ليست البتة دليلاً على أن هذا الرأي ليس باطلاً كل البطلان)) أما الناقد المعروف كلايف بيل فيؤكد أنه: ((مازال بالإنسان شيء من الخراف)) وفي القرآن الكريم: ((إنْ هُمْ إلا كالأنعام بل هم أضَلُّ)) إن الأكثرية من الناس في كل المجتمعات وفي جميع العصور تبقى منتظمة بما تبرمجت به في الطفولة مهما أوغل هذا التبرمُج في الضلال والجهالة والتخريف والعدوانية والحُمْق أما التعليم فيركز اهتمامه في تأكيد الثقافة السائدة وملء عقول الدارسين بالنفور من المغاير والاستنفار لمحاربته أما الهدف الثاني من التعليم الجمعي فهو التأهيل المهني وحتى التأهيل المهني أكثره يكون موجَّهًا لخدمة الهدف الأول لتخريج معلمين وموظفين لخدمة الثقافة السائدة فيكون النتاج التعليمي الموجَّه للتنمية واحتياجات الناس ضئيلاً.. ليس هذا فحسب بل إن المهارة المهنية لا تتحقق إلا بالممارسة المتفاعلة ولا يمكن اكتسابها بالمعلومات النظرية فالمهارات العملية لا تتكوَّن إلا بتكرار الفعل تكرارًا كافيًا مسبوقًا برغبة متوقدة ومصحوبًا بمتعة متجددة... أما الريادات الإبداعية فهي نادرة بل شديدة الندرة وتأتي خارج النسق إنها شأنٌ آخر مختلف كليًّا عن المعايير المدْرسية وعن الأهداف التعليمية ومغايرٌ للتصورات المستقرة السائدة ويأتي الفيلسوف جان جاك روسو بوصفه من أبرز الرواد الخارقين فهو قد نجا من القوالب التعليمية والأُسرية والاجتماعية فقد ماتت أمه أثناء ولادته وتخلى عنه أبوه وهو في العاشرة من عمره فقاسى من التشرد والجوع وقسوة الناس ومشقات الحياة لقد صاغته الظروفُ الصعبة وأنضجته المعاناةُ المبكرة فنشأ حُرَّ التفكير منطلق العقل مفتوح القابليات فصار مغامرًا جوَّالاً في مجالات الفكر والفعل وكان يملك قابليات عظيمة أتاحت له أن يصير رائدًا خارقًا وقد أدرك تَفَرُّده وامتيازه فأغدق على الناس من روائع فكره ماجعله مُلهماً لجيله وللأجيال التالية حتى يومنا هذا.. ليس في مجال واحد وإنما في مجالات معرفية وأدبية وعملية متنوعة.. إن المفكر الفرنسي المعاصر ريجيس دوبريه حين أكد في كتابه (نقد العقل السياسي) بأن روسو هو مؤسِّس العلوم الإنسانية فإنه بذلك يعبِّر عن حقيقة معروفة فتجد روسو حاضرًا بقوة في علم السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس وعلم التربية وفي كل المجالات الاجتماعية والإنسانية إنه فيلسوفٌ خارق وروائيٌّ مبدعٌ وكاتبٌ يدهش قارئيه ولم تكن مواهبه فقط هي السبب في هذا التفرد وإنما يعود ذلك إلى نجاته من القولبة التعليمية كما يعود إلى أنه واجه مسؤوليات الحياة مبكرًا فأدت هذه المواجهة إلى تأجيج قابلياته وتفجير منابع ذاته... إن فيلسوفًا متفرِّدًا مثل روسو يبقى صانعًا لتحولات حضارية تليق بتفرُّده وكما يقول الدكتور عبدالغفار مكاوي في كتابه (ثورة الشعر الحديث): ((فأعجب مافي روسو أنه يريد أن يقف وحيدًا وحدةً تامةً في مواجهة نفسه ومواجهة الطبيعة وهذه الإرادة هي الشيء الجديد الفريد فيه إنه يقف في نقطة الصفر من التاريخ كأنما يريد أن يبدأ من العدم وهو بمشروعاته التي يضعها للدولة والمجتمع والحياة يجرد التاريخ من قيمته بل يعتبر أن دخولها في الظروف التاريخية تزييفٌ وإفسادٌ لها.. ولذلك كان موقفه الفردي المطلق تجسيدًا لأول شكل حاسم من أشكال الخروج على التراث كما كان في الوقت نفسه خروجًا على البيئة المحيطة به وانشقاقًا عليها)) فبينما تكون مهمة التعليم في أحسن حالاته تقديم ما هو مُنْجَز وترسيخ ما هو قائم وتأكيد ما هو متداول أما في المجتمعات المرعوبة من الأفكار المغايرة فإن المهمة الأساسية للتعليم تكون مقاومة المغاير والتحصين ضد الوافد وحَجْب أضواء التنوير.. ومن هنا تأتي المفارقة فبالمقابل تكون مهمة الرائد تجاوز المنجَز وتغيير القائم ونقض ماهو متداول والوثوب بالمجتمع وبالإنسانية إلى مستوى أرقى من مستويات الحضارة... لكن المجتمعات تَحْكُم على روادها وقت ظهورهم بمعاييرها هي وليس بمعايير الريادة إنها لا تستطيع ولا يُنتظر منها أن تتعامل مع روادها المغايرين لاتجاهها إلا بأسلوب الرفض فلا شيء يعلو على ذاته إن طبيعة العقل المكوَّن أنه يرفض تلقائيًّا ما يغاير تصوراته إن اتجاهه محدَّد بالأسبق إليه لذلك يبقى الرائد موصومًا بالشذوذ لأنه يفكر خارج النسق وكما يقول المبدع الأميركي مارك توين: ((كل مبدع يوصف بأنه غريب الأطوار إلى أن ينجح مخططه الجامح)) فالرائد يكون مرفوضًا عند ظهور أفكاره الخلاقة غير أن الأجيال التالية قد تدرك أن ما كان موصومًا بالشذوذ لم يكن سوى تجليات الريادة الخارقة الفذَّة وكما يتحدث د. مكاوي عن: ((إعجاب الناس بشذوذ روسو ووحدته وتَفَرُّده إعجابًا لم ينقطع إلى اليوم)) ثم يقول: ((والمهم أننا نجد عند روسو نوعًا من التفسير الذاتي الذي سنجده عند عدد غير قليل من شعراء القرن التالي له وهو تفسير الشذوذ بأنه الضمان الأكيد لرسالة المفكر والأديب.. والاقتناع بالصراع الضروري والشقاق المحتوم بين الذات والعالم اقتناعًا يجعل روسو وأتباعه يقولون: ((أحب أن أكون مكروهاً من الناس على أن أكون عاديًّا مثلهم)) إن روسو بإدراكه للطبيعة البشرية يقف ضد التعليم التلقيني بل إنه يطالب بالتركيز على إثارة اهتمام الدارسين واستنفار فضولهم التلقائية ليتعلموا بدوافع ذاتية تلقائية ففي كتابه عن التربية الذي يحمل عنوان (إميل) يقول: ((اجعل تلميذك ينتبه لظاهرات الطبيعة وسرعان ما يصبح متطلعًا يملؤه الفضول الذي أيقظته فيه بل ضع المسائل في متناول يده ثم دعه يتولى بنفسه حلَّ كل مسألة منها إذْ يجب أن لا يعرف شيئًا على أساس أنك قلته له أو لقَّنته إياه بل لأنه فَهِمَهُ إنه يجب أن يخترع العلم ويكتشفه بذاته لا أن يحفظه ويتلقَّنه فإنك انْ أحللت يومًا في عقله سلطانك مكان تفكيره فلن يفكر بعدها أبدًا ولن يَعْقل ولن يصبح إلا ألعوبة لآراء سواه من الناس)) ويقول: ((ليس الأمر أمْرُ تعليمه حقيقة بقدر ماهو أن تُظهر له كيف يستطيع أن يكتشف بنفسه حقيقة)). كان روسو مقنعًا ومُلهمًا ولكن أساليب التعليم في كل العالم مازالت غير قادرة على تطبيق آرائه في التربية والتعليم غير أن الفلاسفة والمفكرين والمهتمين من الأدباء والباحثين مازالوا يكررون ضرورة الأخذ بهذه الآراء واعتبار الدارسين طرفًا فاعلاً وإيجابيًّا.. نجد ذلك عند وليم جيمس وجون ديوي وبراتراند راسل وغيرهم، إن الفيلسوف البريطاني الشهير برتراند راسل ظل يكافح ضد أساليب التعليم السائدة ويكرر تأكيد أضرار التعليم التلقيني وقد أصدر عن ذلك أكثر من كتاب كما أنه أنشأ بنفسه مدرسة ليجعلها نموذجًا للتعليم الحر المفتوح لكنها تجربة فردية فلم تكن قادرة على الوقوف في وجه التيار العام الجارف وقد كان مقتنعًا أن التعليم ينشر الغباء ويؤصِّل الامَّعية فقد كتب يقول: ((لايولد البشر أغبياء بل التعليم يجعلهم أغبياء)) وهو لا ينفرد بهذا الرأي وإنما أكثر المفكرين المهتمين بالتعليم يؤكدون هذه النتيجة الفاجعة... إن كتاب (إميل) لروسو ليس فقط كتابًا علميًّا تأسيسيًّا في المجال التربوي وإنما هو تحفة أدبية؛ لذلك فإن الكُتَّاب يجدونه مثيرًا وكما يقول المبدع الأميركي هنري ميلر: ((كتابُ إميل لروسو وجدته ممتعًا بصورة استثنائية)) أما الفيلسوف الألماني الأكبر كانط فيرى أن جمال أسلوب الكتاب يشغله عن تأمُّل المعنى فيؤكد أنه يعيد قراءته بعد أن تكفَّ روعةُ الأسلوب عن إدهاشه وفتنته... إن جان جاك روسو يقف شاهدًا شامخًا لصحة نظرية (الريادة والاستجابة) ونظرية (عبقرية الاهتمام التلقائي) وصحة مقولة: خصوبة التعلُّم اندفاعًا وعُقم التعلُّم اضطرارًا فروسو كأكثر العظماء الرواد لم ينتظم في مدرسة ولم يدخل جامعة وإنما واجه عُسْر الحياة ومشقاتها منذ طفولته فصاغته هذه المواجهه صياغة باهرة فصار رائدًا عظيمًا يتجدد اكتشاف عظمته ويستمر عطاؤه كما يتجدد الاهتمام به فلا يتوقف إصدار الكتب الحافلة عنه لأن أفكاره مازالت تخاطب الناس بعمق وتتلاءم مع مشكلات الحاضر فهو سابقٌ لعصره ولكل العصور وهو لا يختلف عن بقية الناس إلا بأنه نجا من التأطير التعليمي الذي يُعوِّد على الامتثال ويُزهق قابليات المبادرة وكما يقول الخبير التربوي الأميركي ماثيو ليبمان في كتابه (المدرسة وتربية الفكر): ((الأطفال يتفجرون حيوية وفضولاً وخيالاً وحُبًّا للبحث والتقصي ولكن يبدأ الانحدار يأخذ طريقه تدريجيًّا فيصبحون سلبيين)) ويقول ليبمان: ((في المدرسة عند كثير من الأطفال يُعَدُّ الجانب التربوي محنة مرعبة)) إن العالم مقبلٌ على تحول نوعي في التعليم بعد اكتشاف أضراره الفادحة في إغلاق القابليات الإنسانية العظيمة خصوصًا بعد أن صار توفير المعلومات أقل المهام التعليمية أهمية. 2150
مشاركة :