ما زالت حفيدات الفنانة الأميركية الشهيرة جريتا جاربو يلاحقن الأديبة المغربية عائشة البصري في كل مكان تذهب إليه، رغم مرور أكثر من عام على سردها قصصهن في رواية «حفيدات جريتا جاربو». الرواية التي تدور في أحد مستشفيات الأمراض العقلية، حيث تحكي المريضات عن أنفسهن للطبيب المعالج، تغوص في عالم المرأة الواسع والغامض وهو جزء من كتابة البصري الشعرية والسردية التي تقول عنها «محاولة إشعار المجتمع بالواقع المجحف للمرأة»، مؤكدةً أنها حين كتبت الرواية لم تترك الشاعرة خلفها، بل استعملت تقنياتها الشعرية ولغتها المكثفة. التقتها «الجريدة» وكان هذا الحوار. روايتك «حفيدات جريتا جاربو» الفائزة بالجائزة الأدبية الدولية «كاتب ياسين» لا تزال حاضرة في مشهدك الأدبي راهناً. أخبرينا عنها. نالت «حفيدات جريتا جاربو» مكانة كبيرة في مسيرتي الأدبية، وهي حكاية ثماني نساء ينتمين إلى شرائح مختلفة من المجتمع المغربي، انتهين إلى الجنون. كل منهن سلكت طريقاً مختلفاً لتصل إلى مشفى للأمراض النفسية، اقتسمن الجناح «ل» المخصص للحالات غير العنيفة، وبدل الأسماء حملن أرقام الغرف، بالإضافة إلى ألقاب اكتسبنها في المستشفى (المناضلة، العانس، الكاتبة، الخنثى، امرأة بوغابة، السكرتيرة، امرأة الرواية)، فجاءت الرواية تضج بغضب نساء عانين واقعاً مجحفاً حوَّل حيواتهن إلى جحيم لا يحتمل، فهربن نحو الجنون. والغضب جنون قصير كما قال هوراس شاعر روما القديم... يقود أوركسترا الجنون هذا خوان رودريغو أمية، الطبيب الإسباني الذي جاء إلى المغرب في بداية السبعينيات عن طريق الإعارة ليشتغل طيلة 20 سنة متنقلاً بين مستشفيات بشمال المغرب، ويلتحق آخر المطاف بمستشفى الرازي للأمراض العقلية في الرباط. وتظل حقيقته غامضة في انتظار رواية ثالثة بعنوان «كجثة في رواية بوليسية». تحكي الرواية قصة شخص يدعي أنه ابن الفنانة الشهيرة جريتا جاربو، لكنه في حقيقة الأمر مجرد طفل كان يعيش في ملجأ للأيتام، زارته الفنانة، والتقطت معه صورة. كيف جاءتك الفكرة ونسجت الأحداث كافة بتلك السلاسة؟ ربما يعتقد القارئ للوهلة الأولى وهو يتصفّح الكتاب أن «حفيدات جريتا جاربو» ترتكز على قاعدة وثائقية وتاريخية، لما تضمنته من وثائق ومراسلات ومذكرات، وما رافقها كذلك من ترجمة وثائق من اللغة الإسبانية إلى العربية. لذا يجب عليَّ إثارة الانتباه إلى أن الرواية في الأساس محاولة لتوثيق الخيال، فكل عوالمها، والشخصيات، والأحداث، والوثائق، والمراسلات محض خيال. ولدت فكرة الراوية من رحم «ليالي الحرير»، لأن خوان رودريغو أمية إحدى شخصياتها، فقد انتهى في مستشفى للأمراض العقلية جنوب إسبانيا. هذه الشخصية الملتبسة والمتعددة، كانت مغرية كأفضل ذريعة لتناول واقع المرأة العربية الملتبس والمعقد الذي من الطبيعي أن أهتم به، كمجال أقرب، وكهم يثقل كتاباتي حتى الشعرية منها، وما حكاية خوان رودريغو أمية إلا مسوغ لحكايات الشخصيات النسائية، لأن الرواية في العمق منشغلة بواقع المرأة العربية والمغربية خصوصاً، ومع ذلك فللمخيلة مقالبها وجنونها، تأخذ الكاتب إلى مناطق لا يعرف هو نفسه كيف وصل إليها ويعجز عن تفسير الحوادث والشخصيات التي خلقها هو نفسه بقلمه. وقائع ومحظورات تتناول الرواية واقع المرأة العربية عموماً والمغربية خصوصاً، هل هذه الرواية للمرأة فحسب؟ كتاباتي الشعرية والسردية، وحتى المقالة الصحافية، محاولة إشعار المجتمع بالواقع المجحف للمرأة. هي موجهة إلى الرجال أكثر من النساء لأنهن يعرفن واقعهن أكثر ويعشنه يومياً. أعترف هنا بأن الرواية كانت صادمة للبعض لما فيها من تعرية لواقع المرأة العربية، وكانت مؤلمة حد البكاء للبعض الآخر، حسب رسائل وصلتني. وأعتذر للقراء عن كمية الألم فيها، لذا لم تكن لتُكتب إلا في غياب العقل لسببين، أولهما الافتقاد إلى شجاعة النظر مباشرة في مرآة الواقع، وثانيهما فظاعة الألم الذي تحتوي عليه. في رأيك، ماذا طرأ على تجربتك الروائية منذ روايتك السابقة «ليالي الحرير»؟ لا أعرف. ربما يوجّه هذا السؤال إلى النقاد والقراء، لكن من بعض الأصداء والكتابات، تبيّن أن «الحفيدات» تجربة مختلفة، رغم أن العوالم متقاربة بينها وبين «ليالي الحرير» و«عوالم نساء». عموماً، لا أحب أن أرتدي جبة الناقد وأقيم كتاباتي. قارئ أعمالك يجد أن السرد مشحون بشاعرية في أماكن كثيرة من جسد النص، وهو أمر يتحقق عن طريق اللغة وتقنيتها ومعرفة كيميائها. كيف حققت ذلك؟ حين أردت كتابة الرواية لم أترك الشاعرة خلفي، بل استعملت تقنياتي الشعرية ولغتي المكثفة، وهو ما لاحظه بعض النقاد في أسلوبي الروائي: «اللغة مكثفة تتجاوز الإخبار إلى آفاق المجاز، من دون الإغراق فيه ولا يخلّ بتسلسل السرد وحيويته»، وهي عملية صعبة لا يوفق فيها بعض الروائيين الشعراء. أعتقد أنني حققت نجاحاً ما على هذا المستوى، في السياق العام، فقد أصبح مفهوم الكتابة اليوم مرِناً ومفتوحاً، يجعل الأجناس الأدبية منفتحة على بعضها بعضاً وتجمع أحياناً بين خاصيتي الحكي والجملة الشعرية، وهذا ليس عيباً. هل ثمة مناطق محظورة في كتاباتك؟ أمارس رقابة ذاتية على كتاباتي بعد الانتهاء من نص معين. صحيح أن الحرية شرط أساسي للكتابة، لكن لديَّ طرائق عدة للتحايل على الرقيب أستعملها بحذر ومرونة... عموماً، ما زالت الحريات العربية تعاني القيود في المجالات كافة من بينها الأدب، وفي ظل ما نعيشه من ردة نحن مطالبون ككتاب بالحفاظ على المكتسبات التي ناضل لأجلها كتّاب وكاتبات، وليس افتعال مواقف صدامية تهدم كل ما بناه آخرون بجهدهم وحياتهم. هل تراهنين على الجوائز لتحقيق انتشار عربي والمساهمة في إيصال صوت الإبداع النسوي المغربي خارج حدود الوطن؟ الجوائز ليست مقياساً لجودة النص الأدبي، لأنها تخضع، بالإضافة إلى المقاييس الأدبية، لاعتبارات أخرى من بينها الذاتية والسياسية. حتى «نوبل» عرفت اختراقاً لما هو سياسي. لا أراهن على الجوائز لتحقيق انتشار عربي بل على جودة النص التي لا تتحقق إلا بالتراكم النوعي. شخصياً، تجربتي متواضعة، بغض النظر عن حضوري الشعري، وما زلت أتلمس طريقي في السرد. هل تتأثر كتابات الأديب بحياته فتصبغ بآلامه وأحلامه ومعاناته؟ ثمة رابط بين النص الأدبي وبين صاحبه مهما حاولنا التمويه، يشبه الحبل السري للمولود الذي لا ينتهي دوره بالولادة، بل تبقى الجينات التي يرثها النص عن كاتبه بعد النشر. في «حفيدات جريتا جاربو» بذلتُ جهداً مضاعفاً كي أبعد شخصيتي عن الشخصيات النسائية الثمانية، لكن، الأكيد أن كل شخصية أخذت ملمحاً مني، ولعل هذا ما كان يقصده الكاتب الفرنسي غوستاف فلوبير حين قال عن روايته «مدام بوفاري»: «إيما بوفاري هي أنا». «درويش» المنارة الشعرية ترى الأديبة عائشة البصري أن الأدب نص إنساني، وأن الأديب لا يكتب من فراغ بل «يشاركنا في النص من سبقونا ويكمله من سيأتون من بعدنا»، وترى أنها تأثرت في الشعر بالشاعر الكبير محمود درويش، وهو «منارتي الشعرية في العالم العربي»، ومن الشعراء العالميين يانيس ريتسوس، وبابلو شيروادا، وفي الرواية «يظلّ كتّاب أميركا اللاتينية مدرستي الأولى: غارسيا مركيز، بارغاس يوسا، خوان رولفو، وأليندي. - عائشة البصري من «مواليد 1960». حصلت على إجازة في الأدب العربي من جامعة محمد الخامس في الرباط عام 1981. - عضو بيت الشعر، واتحاد الكتاب بالمغرب، ونائب رئيس الجمعية الدولية للنقد الأدبي بفرنسا. - من أعمالها الشعرية: مساءات، أرق الملائكة، شرفة مطفأة، ليلة سريعة العطب، خَلوةُ الطير. ولها دراسة نقدية بعنوان: السخرية في شعر محمود درويش، وترجم شعرها إلى الفرنسية، والإسبانية، والإنكليزية، والتركية، والسويدية، ولغات أخرى.
مشاركة :