ظهرت القطيعة المعرفية (أو الإبستمولوجية) كمصطلح على يد الفرنسى غاستون باشلار، وقصد بها مفهومين؛ الأوَل: تخلّي العالم في المختبر عن المعرفة التقليدية الشائعة، والأخذ بالمعرفة العلمية الموضوعية القائمة على التجربة والبرهان. والثاني: القطيعة بين الأنظمة المعرفية في تاريخ العِلم. ويضرب باشلار مثالاً بالمصباح الكهربائي؛ فهو ليس استمراراً لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق؛ بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق، فهي خلق وإبداع جديد تماماً. والنظام المعرفي هو مجموعة من المفاهيم والمقولات وطرائق التفكير التي تمكِّننا من حلِ المشكلات أو التوصل إلى معرفة جديدة ترقّي حياتنا. فعندما يصل النظام المعرفي الذي نستخدمه إلى طريق مسدود، ولا يستطيع معالجة الإشكاليات التي تواجهنا، لا بدَ لنا من تغيير الزاوية التي ننظر منها إلى الأشياء، أي التخلّي بوعي تامٍ عن ذلك النظام المعرفي القديم، وتبنّي نظامٍ معرفي جديدٍ يستطيع التعامل مع الإشكاليات التي عجز النظام المعرفي القديم من التعامل معها. فالتطوُر العلمي لا يتوقَف على التراكم الكمي فحسب؛ بل على آليات التفكير الجديدة أيضاً(1). وفيما اشتغل باشلار على المفهوم الأول لمصطلح القطيعة المعرفية، تبنّى المفهومَ الثاني وطوَّره ثلاثة من المفكرين؛ هم: الفيلسوف الناقد الفرنسي ميشيل فوكو الذي اتَبع طرائقَ بحثٍ جديدة في كتابه "تاريخ الجنون"؛ والفيلسوف الفرنسي لويس التوسير الذي أعاد قراءة كارل ماركس قراءة بنيوية، فبيَن أنَ ماركس في كهولته قد قطع صلته الأيديولوجية والمثالية بالفلسفة الألمانية، وتبنّى مقاربة علمية ونظرية قرأَ فيها الأشياء قراءة نسقية توضِح بنيتها الداخلية ونظامها الهيكلي؛ ومؤرِخ العِلم الأميركي توماس كوهن صاحب كتاب "بنية الثورات العلمية" الذي برهن فيه على أن التطوُر العلمي ليس بالضرورة تراكمياً وتدريجياً، وإنَما قد يتأتّى من ثوراتٍ بنيوية يتمُ فيها تغييرُ نسق البحث وآلياته. وأصبح للقطيعة المعرفية مفهومٌ مختلفٌ شيئاً ما لدى كل واحد من هؤلاء المفكِرين الثلاثة (2). اختلف مفهوم القطيعة المعرفية عند من تناوله من المفكرين العرب؛ فأركون يختلف عن الجابري والعروي وغيرهما. أياً كان الأمر، نحتاج إلى تأطير نظرية معرفية قادرة على المحافظة على التراث واستيعاب الجديد الحداثى وما بعد الحداثى سواء بالرد أو القبول، فالقطيعة المعرفية تحدث عندما تتغير نظرة العقل نفسه إلى المعرفة وطرق إدراكها للواقع وتعبيره عن تأويلاته لهذا الواقع. ويرى محمد أركون أن القطعية تستدعي الوصل مع التراث من زاوية التأسيس المنهجي، وأنه يجب وصل الفكر الإسلامي المعاصر بلحظة الإبداع الكلاسيكي الذي شهده الفكر الإسلامي، قبل أن يتراجع لصالح ما سماه اللحظة (السكولاستيكية) أو المدرسية التي تتصف بالجمود والتكرار، والتي يرى أنها فرضت نفسها طيلة قرون وطمست مرحلة الإبداع والانفتاح، وحجبت الفكر الأصيل. ومهمة أركون هنا بالضبط هي القطيعة أو الفصل والوصل والربط؛ أي تأسيس قطيعة مع هذه الفترة الأخيرة وإعادة الوصل بلحظة الإبداع الكلاسيكي، كنوع من القطيعة بين تراثين مختلفين. تعني القطيعة المعرفية في العلم الحديث شيئاً جيداً من حيث هي نقلة نوعية وانتقال من طور المعرفة إلى طور العلم، المنضبط من حيث الموضوع والحدود والمجال والعلاقات بغيره من العلوم. غير أن القطيعة المعرفية التي أحدثتها بعض التيارات السلفية المعاصرة ليست شيئاً جيداً على الإطلاق؛ فهي بمثابة "مخاصمة معرفية"، فلم تحفل بالعلم لأجل ذاته بقدر ما حفلت به لغيره من السياسي والاجتماعي والدعوي وترتب على هذه النظرة الانتقائية للتراث الإسلامي، آخذة منه مقتضيات واقعها، ومن ثم تحولت إلى أيديولوجية جديدة أكثر منها حركة علمية، وساهم في ذلك الأحداثُ التي يعج بها العالم على مدى عقود، ساهمت في ظهورها وتبلورت داخلها الأيديولوجية السلفية، ومن ثم فهي تقوم على رفض الجديد جملة وتفصيلاً، كما ترفض الفلسفة القديمة. عملت تلك "الانتقائية" على رفض واضطهاد كل محاولة لتجديد النظام المعرفي في الفكر الإسلامي أو تحليل بنية ذلك النظام المعرفي ومكوناته وعناصره وأسسه، والتوصّل إلى مفهوم هذا النظام وتحديد طبيعته، وكذا الوقوف على علاقته بالنظام الاعتقادي وبمنظومة القيم، وإشكالية تمحور هذا النظام في صورة نسقية تأبى انفصام المعرفة عن الاعتقاد والقيم بصورة ما، مستغلاً في بعض الأحيان قربه من العوام. حيث رفضت علوم بعينها، كالفلسفة والمنطق وهي علوم مهمة في تشكيل العقل العلمي؛ استناداً إلى فتاوى البعض كما ذكر الأخضري في سلم المنطق (فابن الصلاح والنووي حرَّما.. وقال قوم: ينبغي أن يُعلما)، فالأخذ بفتوى النووي وابن الصلاح وترك فتاوى القوم وهم الجماعة من العلماء هو انتقائية. على أن ابن الصلاح، كما ورد أنه حاول تعلَّم المنطق فأُغلق عليه فتركه. فإن صحت تلك الحكاية، فمن الأولى ترك فتواه في المنطق، وقد غلا ابن الصلاح في اضطهاد هذه العلوم وأهْلها، ويروى ابن تيمية يقول: "من الحكايات المشهورة التي بلغتنا أن الشيخ أبا عمرو بن الصلاح أمر بانتزاع مدرسة معروفة من أبي الحسن الآمدي، وقال: أخْذها منه أفضلُ من أخْذ عكا. مع أن الآمدي لم يكن أحدٌ في وقته أكثر تبحُّراً في العلوم الكلامية والفلسفية منه، وكان من أحسنهم إسلاماً، وأمثلهم اعتقاداً". ومهما كانت المبررات من أنها علوم يونانية المنشأ وغير ذلك، فإنه إن لم تكن ثمة حاجة لهذه العلوم قديماً، فهي بلا شك من الأهمية بمكان في العصر الحديث. حينما حاور ابن عباس الخوارج، استطاع أن يُرجع منهم الآلاف، ولما انتشرت الفرق الكلامية المُشْحنة بالعلوم الفلسفية، تعلّمها ابن تيمية وغيره وكتبوا فيها وأصبحت جزءاً من العلوم المعروفة، يتعلمها طلاب العلم بلا حرج. أصبحت العلوم الفلسفية جزءاً أصيلاً في النهضة العلمية الحديثة. وهنا، تظهر إشكالية "المخاصمة"؛ من التنكر لجزء من علوم التراث إلى التنكر للآخر، وتفسر الصراع الدائر حتى مع القراءات الجديدة المنضبطة للتراث. وقد هوجم محمد عابد الجابرى حين دعا في كتابه "نحن والتراث" إلى نقد العقل العربي السائد والتخلّي عن الفهم التراثي للتراث، وأثار كتابه هذا ردود فعل واسعة، واتُّهم بأنه يدعو إلى قطيعة إبستمولوجية مع تراثنا الذي هو عماد هويتنا، على أن الرجل يتعامل مع "العقل" وليس التراث بطريقة مباشرة ويعالج بطريقة إجرائية لا غير، وهو ما قرره بقوله: "إن تجديد العقل العربي يعني في المنظور الذي نتحدث فيه، إحداث قطيعة إبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط، وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر". فقد دعا إلى التخلي عن الفهم التراثي للتراث، أي التحرر من الرواسب التراثية في عملية فهم التراث والتحول من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث. المعاداة لعلوم إجرائية مهمة تعمل على التكوين الإبستمولوجى، ليس لها علاقة بالعودة للسلف بقدر ما لها علاقة بالضعف العقلي وضيق الرؤية. وعملياً، أدت هذه "المخاصمة" إلى التشظّى داخل المكون السلفى نفسه إلى عدة جماعات متباعدة حسب الاهتمام؛ من السياسي والجهادي إلى الاجتماعي إلى الدعوي. ومن ثم، قادها الهاجس الأيديولوجي إلى شن معارك مع الجديد وما لا يناسبها من التراث، سواء كانت معارك حقيقية أو وهمية، فلم تفرق بين من يريدون القطيعة الحقيقية مع التراث بأكمله -وهم موجودون بلا شك- ومن يريدون صناعة نظرية معرفية جديدة لقراءة التراث أو حتى هجْر حقبة معينة أو طريقة معينة في الفهم وعمل العقل حتى يتسنَّى استيعاب الوافد الجديد، ومواكبة العصر، وإيجاد خطاب ديني جديد، والخروج من العيش في حقبة معينة من التاريخ. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ 1 - علي القاسمي، مفهوم القطيعة مع التراث في فكر الجابري. 2 - هاشم صالح، مخاضات الحداثة الإبستمولوجية. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :