الكذب الصادق حسين صالح الصدق في الكذب يصعب تعريفه. يكفينا أن نقتنع أن هناك كذبا فيه مقدار من النزاهة والإخلاص، وأن هناك صدقا فيه مقادير من الخبث والاحتيال والزيف. مناسبة الحديث هي أن الانتخابات الأميركية في أوجها كان بها مرشحان متنافسان رئيسيان وكاذبان كما هو متوقع وعادي في السياسة. لكن الجمهور حكم على أحدهما بالكذب ولم يحكم على الآخر أو أنه أدرك كذبه لكنه تقبله، فالاثنان كذبهما واضح. ولعل الناس قبلت كذب أحدهما، وهو الذي فاز واسمه دونالد ترامب كما تعرفون، لأنه كذب نزيه. وهناك فرق حقيقي بين أن تصدق شيئا وأن تغفر لقائله. يعني الكذب النزيه هو كذب واضح ولا نصدقه لكننا لا نبالي ولا نعاقب أو حتى نعاتب قائله. ترامب هذا قال كلاما كثيرا كله كذب لكن كان فيه شيء من الطفولية والنية الحسنة، في حين كانت غريمته هيلاري كلنتون تكذب كذبا طفيفا لكنه لئيم ويخدمها من طرف خفي. الجمهور اختار الكذب الفاجر على الكذب الذكي اللئيم. حين يكون الكذب فاجرا يصير غير مؤذ. الكاتب الأميركي بيل برايسون يذكر صديقا له في طفولته. هذا الولد كان يزعم ويقسم بصدق أن أخاه الأكبر أكلته حشرات ضارية وأتت على كل جسمه ولم يبق منه سوى الرأس. ويقول إن العائلة لا تزال تحتفظ بالرأس في صندوق القبعات وإنها تخرجه من الصندوق كل ليلة ليتفرج الرأس على التلفزيون. هذه كذبة فاجرة ولذيذة ونقبلها لأننا نتمنى أن تكون حقيقة. ما أجمل أن يكون هناك رأس يتفرج على التلفزيون ويقيم في صندوق القبعات. كان عندي صديق يكذب بفجور وأحب كذبه. يكذب بصدق وبكل جوارحه ابتغاء وجه الكذب لا غير ودون منفعة. رأسه يوجعه فيقول بطني يوجعني، هكذا دون أدنى فائدة. ومن جراء معرفته اكتشفت أن لدينا رد فعل غريزي في تلمس الأعذار للآخرين. صديقي هذا يقول، مثلا، “البارحة زرت أصدقاء وانهارت بي شرفتهم وسقطت في الشارع”. وهو قد دخل يسعى على قدميه دون أثر للسقطة. فأسارع إلى رمي طوق النجاة قائلا لعل شقتهم في الطابق الأول فيرد صاحبي مصرا على ان تكون كذبته فاجرة تماما “لا.. هم في الطابق العاشر”. وما دام هناك كذب صادق فهناك صدق كاذب. وكلنا سمع الحكمة التي تنقل أحيانا على أنها حديث شريف والتي تقول “كذب المنجمون ولو صدقوا”. يحضرني الآن نموذج صارخ على الصدق الكاذب قاله لي مفكر عربي ومثقف كبير رحل الآن ولكنه لا يزال مؤثرا وكانت هناك جائزة أدبية تحمل اسمه. قال لي حقيقة لكنها صدرت عنه بأبشع من الزيف. قال المفكر الراحل “هل تعلم أننا، أنا وبيكاسو، لم نلتق أبدا؟” وكأنه يتوقع أن يُصدم السامع ويقول “يا رجل، قل كلاما غير هذا. مستحيل، لا أصدق”. لكني لم أقل شيئا فقد كنت منشغلا بتأمل الحقيقة التي هي أكثر زيفا من الكذب. سراب/12
مشاركة :