ليست فلسفة، لا تخضع لقوانين المنطق والطبيعة، في منأى عن النظريات والعلوم، وأبعد ما تكون عن "الأحبار والرهبان والشيوخ". هي حكاية ذاتية جداً، "حدوتة" شعورية، أنت فيها كل شيء، وتبحث عن أعظم شيء. مهما كانت الظروف التي أوجدتك، والبيئة التي حملتك، واللغة التي فرضت على أذنيك، والعادات التي لم تجد سواها، والدين الذي تربيت عليه، والإله الذي أخافوك من نيرانه وأصفاده وعقاربه وثعبانه الأقرع وملائكته الغلاظ الشداد، فأنت في لحظة ما تنقطع عن كل شيء، تثور من داخلك وتتمرد، تعطي لعقلك مساحة أكبر من محاولة الفهم، والنظر، ولو لأبعد من حدود السماء السابعة. حسك قاصر كالعادة، وإمكانياتك محدودة جداً، لكن لا يهدأ بالك، تريد الوصول بأي طريقة لحل "اللغز"، من أنا؟ ولمَ؟ وأنت؟! تخشى أن يعرف من حولك، فينبذونك في النار، أو يعطونك صكاً للجنة، التي لم تجدها في حياتك الدنيا بعد، ولا مفر من الألم في كل الأحوال؛ حيث لا مفر من الحياة. لكن للقلب منطق آخر وإدراك يفوق العقل وحدود السببية، يتغلب على كل القواعد المرئية، يرى فى الظلام، ويعمى في وضح النهار، ولسارتر الفيلسوف في وجوديته معانٍ قريبة من ذلك، قد تلجأ للخلوة، لقراءة كتاب، لسؤال مَن تثق به، للشعر في محاولة للخروج من الأزمة: القلب يعرفه ** والعقل في تيهِ فملافظي كفر ** ودواخلي فيهِ أعرضت إيماناً ** الشك في فيهِ لو كان يكرهني ** ما كنت ناسيهِ تلجأ للنوم، تلك الحياة القصيرة؛ حيث يخمل الجسد، وتنشط الروح.. قلبك أقوى هذه المرة، تقترب أكثر، بينما روحك تعلو رويداً رويداً، الضلالات تزول تدريجياً، رأسك يمتلئ بالأكسجين، وأطرافك تتثاقل. يقترب الواقعي من الخيال، اليقظة من الحلم، الحسي من المخفي، الظلام يخيّم وستار يُرفع أمام عينيك، تبدأ حكاية غيرك، وربما يبدأ غيرك حكايتك! يقول فرويد في كتابه "الأحلام": إننا غالباً ما نتقمص غيرنا، ما نفتقده، ما نريده ونعجز عنه في الواقع، وكذلك غيرنا يعيشوننا، يتناسخوننا، على أية حال. لقد ولدت في مجتمع شرقي يقدس الدين والتقاليد، محاولة التفكر في ذات الله عند أفراده جنون وردّة، وحجتهم في ذلك ما ورد عن الأسلاف: "تأمل في مخلوقات الله لا في ذاته"، لست إفريقياً مثلاً، فربما ينشأ الإفريقي -سوداني أو كيني أو تشادي أو غيني- في بيت من أب مسيحي وأم مسلمة، ويكون ملحداً، وإخوته الكثر لكل منهم دينه ومعتقده، الكاثوليكي والتشكيكي والهندوكي واللاقدري واليهودي، وكل الحرية في ذلك دون توقيع عقوبات أقلها الهجر واتهام العقل. لقد كنت طفلاً ذكياً ومشاغباً منذ المرحلة الأساسية في التعليم، أرهق أساتذتي بكثرة التساؤلات، لكنها لم تخلُ من براءة الطفولة وسذاجة الصبا، ليت العالم بأسره استحال طفلاً طيلة بقائه، وعندما تجاوزت العشرين بدأت رحلة بحث، وشاركني فيها بعض الأصدقاء المقربين، مجموعة صغيرة متعددة المواهب ناشدة للحرية متذوقة للأدب العالمي والفنون، متيمة بالإنسان الكامل، باحثة نحو اليوتوبيا الضائعة ومدينة أفلاطون، بينما أحدهم يؤكد ضرورة أن نتخلى عن ديننا في سبيل رحلة بحث حيادية، فهرع آخر وقلع ملابسه وحينما أوشك أن ينزع "الأندر"، أوقفناه متسائلين: ماذا تفعل؟! فقال: "أتخلى عن ملابسي كي أبدأ رحلة جادة وكأنني هبطت عارياً على الأرض في بدء الخليقة"، غشينا على أنفسنا من الضحك، يا لها من أيام مراهقة ساذجة، قلت لهم ذات مرة: "لماذا لا نعامل الإله كما نعامل أمهاتنا ونحن أطفال؟! كثيراً ما نخالف ونتمرد ونرفض، بل ربما نقول: لا أحبك.. لا أريد أن أراك"، وكل كياننا ينبض بالحب ويترقب الرؤية. وقد أصررت يومها على مخالفته والعناد، تعمدت ألا أقوم للصلاة، شربت حتى سكرت، قضيت معظم يومي مع امرأة بأجر، سببت وتفحشت وأزبدت وأرعنت، مضت أيام ينتابني مغص شديد وحرقة معتادة في مجرى البول، مع نزول قطرات صفراء تترك بقعاً خضراء كعرق البرسيم على ملابسي الداخلية، طلبت من الله بصيغة الأمر والدلال أن أعافى؛ فهو وحده المطلع على ما في قلبي من الحب ومحاولة معرفته بعيداً عن أي وسائط بيني وبينه، دعاء شيخ أو بركة جدة عجوز، أصدقائي يراقبونني في تعجب وأحياناً شفقة، يعلّقون على أفعالي تعليقات شتى: "هذا عين الإيمان"، "فترة وستعود"، "مجنون ولكن العالم أكثر جنوناً"، خف الألم وأنا على هذا الحال، وشعرت لأول مرة أن الكلاميديا -وربما السيلان- قد ذهب إلى غير عودة بعدما مللت من مضادات التتراسيكل والبنسلين أو لم تأتِ بنتيجة، لقد استجيب الدعاء دون أي شروط ومستحبات واختيار أوقات وأماكن ومأثورات، هدأت نفسي كثيراً بعدما رحل الألم وتجلت الثقة في رب الكون وأنا أضطجع على سريري، متأملاً تائهاً، سعيداً مغيباً، لا أكلم أحداً من رفاقي ولا أرد على أحد، حتى تسلل إلى أذني صوت أذان العشاء، نهضت بنشاط وسعادة من فوق الفراش، شمرت عن ساقي ويدي وانطلقت للحوض المؤدي لدورة المياه، ماذا ستصنع؟! تساءل صديق، بينما كنت أتوضأ، ماذا حدث؟! استفسر آخر، "لقد ارتد المجنون" علَّق ثالث، وأخرج بعضهم ضحكات صاخبة، وبعدما عدت من المسجد وارتاحت نفسي أكثر من ذي قبل، لما شعرت به من اتصال عميق أو وصال حميمي بيني وبين القوة العظمى التي تسيّر الكون، أخبرتهم أنني قد سمعت منادياً من السماء يخاطبني بحنان ورقة وكأنه حقاً قلب أم: "قُم للصلاة، بكفاية دلع"، ضحكوا جميعاً، وعلقوا بأنني صاحب كرامة وولي صالح من أولياء الله، وسيقيمون لي ضريحاً مشهوداً بعد الوفاة، يشد إليه التائهون رحالهم. كنت لا أنام بالأسابيع، لا أكلم أحداً، أدخل غرفتي التي كان يقطنها معي هؤلاء الرفاق، أسرف جداً في التدخين، وأزهد كثيراً في تناول الطعام، أخلع ملابسي وأرتدي ملابس النوم، أكلم نفسي، وأنا بين الكرى واليقظة، أصيح بعبارات غير مفهومة: "حرام عليكم، لست كافراً، لا أستحق العقاب، إنني أتألم وأعاني، هل أنا..؟!"، أضرب بيدي قائم السرير وبعنف، لا أعبأ باعتراضات أصدقائي ومحاولاتهم مساعدتي، أقفز فجاءة من فوق الفراش، أرتدي ملابسي ثانياً وأنزل لأجلس في أي ركن بعيداً عن الآخرين، أعود للغرفة مرة أخرى، أرقد، وأقوم وأنزل، وأعود، لا أجيب على أصدقائي أو أسمح لهم بمعرفة ما يدور بداخلي؛ فلست أنا أيضاً أعرفه، وكأنما الأمر خيال أو وجودي محض نزق وعبث وتصرفاتي لا تمت إليَّ، وإنما لإنسان آخر داخلي غير الذي أراده الله، أو هو عين ما أراده وخلق الأشياء من أجله، مراراً وتكراراً على الحال ذاته، أياماً وأسابيع وربما شهوراً؛ لأجد نفسي في بداية المطاف وليس نهايته في عيادة طبيب نفسي، رغم كرهي لذلك، ولكنه مراد الأهل، تحت تأثير المسكنات وعقاقير الاكتئاب المزمن والمداومة على جلسات العلاج النفسي، ثم عند شيخ صوفي ليرقيني، كما يتوهمون، أي واحد منا العاقل؟! ومَن المجنون؟! مَن السليم؟! ومَن العليل؟! مَن المؤمن؟! ومَن الضال؟! مَن المعذب؟! ومَن المطمئن؟! مَن العبد البليد؟! ومَن الحر الأريب في ملكوت مولاه؟! وتنهدت بالبكاء.. استيقظت ودموعك الأخيرة على أهدابي.. قد تكون هذه حكايتك، حكاية شخص أعرفه أو لا أعرفه، وحكايتي عند آخر كذلك، كتبت أو لم تكتب بعد، وربما كانت عند صديقي هذا الذي انتحر شنقاً منذ أسابيع، قتلوه بجهلهم وسهام الاتهام المسمومة الموجهة إليه، قبل أن يكتبني. لم ينجُ من ظن التشهد لفظةً ** وهو الأسيرُ بسيرةٍ لا تنطقُ ولربما ينجو المعذبُ في الدنا ** الأرضُ موت والسماءُ تَحَلقُ -كانت في رثائه- أذان الفجر..ٍ أجراس كنيسة العذرا.. سأصلي وأحلم.. أصوم وأعشق.. أطوف وأعزف.. أتصدق وأرقص.. أشعر بك الآن. أكثر، أراك حقاً، وصديقي مستريح البال بالقرب منك، أتمنى الوصول إلى تمام مرادك هنا، فأبلغني شيئاً من مرادي هناك. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :