- 1 - تؤكِّد الأحداث في العالم كلّه أنّ قادتَه السّياسيين يمارسون أكثر فأكثر سياسةً منفصلة عن الثقافة في بلدانهم، وفي علاقاتهم مع البلدان الأخرى، على السّواء. ومن البدَهي أنّ غياب الثّقافة في الرؤية السياسيّة، هو غيابٌ للسياسة نفسها. - 2 - تطرح هذه الظّاهرة أسئلةً عديدة، أوّلها ( بين الأسئلة التي تهمّني ) هو التّالي: ما أسباب الانفصال الذي يتعاظَم يوماً بعد يوم، في العالم كلّه، وفي جزئه العربيّ الإسلاميّ، على الأخصّ، بين السّياسيّ والثّقافيّ؟ وثانيها هو : ما العلاقة في هذا الإطار بين «الوارث» و «تراثه» ؟ وهو سؤالٌ يُوَجَّه، على نحوٍ خاصّ، إلى أولئك الذين يحرصون على إعادة إنتاج موروثهم في الحاضر، كما كان، ماضياً. وهم اليوم، «يحتلّون» وسائل الإعلام العربيّ الإسلاميّ. وثالثُها هو : ماذا تعني إذاً «الهويّة» الثّقافيّة؟ وهل هناك، حقّاً، هويّة ثقافيّة «أميركيّة» مثلاً، أو «فرنسيّة»، أو «عربيّة» أو «عربيّة ـ إسلاميّة» أو «إسلاميّة ـ عربيّة»؟ وكيف نحدّدها؟ وهل تُلتَمَس «وحدة» الأمّة أو البلاد في سياستها، أو في ثقافتها؟ ورابعها هو التّالي: ما تكون طبيعة العلاقة، في هذا الإطار تحديداً، بين سياسةٍ «وطنيّة» وسياسةٍ «أجنبيّة» وبين ثقافة وطنيّة وثقافة أجنبيّة، وباختصار: بين الذّات والآخر: الآخر المواطن، والآخر الأجنبيّ، والآخر «المهاجر» أو «المُغترب»؟ والسّؤال الخامس والأخير، في ضوء الأسئلة السّابقة، هو التّالي: هل يمكن أن يتمّ حوارٌ حقيقيّ بين «الذّات» و «الآخر»، أو بين العربيّ والأجنبيّ؟ أم أنّ الأمرَ هو مسألةُ «استحوارٍ» و «تحوير»، و «تَمَحوُر»؟ - 3 - هل قامت العلاقات بين دول العالم العربيّ، من جهة، والغرب الأميركيّ ـ الأوروبيّ، من جهة ثانية، على الحوار حقّاً ؟ الجواب عن هذا السّؤال يكمن في التّجربة التّاريخيّة. وهي تجربة تقول لنا، أو على الأقلّ لكلّ ذي بصيرةٍ بيننا، إنّ هذا الغرب لم يُحاورْ، لا دول العالم العربيّ ولا غيرها، وإنّما «داوَرَها»، و «ناوَرَها»، و «ساوَرَها» و «حاصَرَها» ، أو «استعمرها»، مباشرةً. سلَكَ هذا الغرب مع غيره، بوصفه «معلِّماً» له، وليس بوصفه «مُحاوِراً». بوصفه «الأعلى» و «الأقوى» لا بوصفه «الصّديق»، و «النِّدّ». وهكذا فرض على الآخر لغتَه وثقافتَه وقيَمَه، وفرض «تقدّمه» وأدوات هذا التقدُّم. وهذا الحوار، كما نراه اليوم، ليس إلاّ «استعماراً» آخر، يتمظهر في أشكالٍ متنوِّعةٍ لا تخفى على ذوي البصائر. لنقُلْ، بعبارةٍ ثانية: إنّه حِوارٌ ـ حجابٌ، في أبسط ِ مظاهره. - 4 - رَضَخَتْ دولُ العالم العربيّ، وقبلت بهذا «الحوار»، قليلاً أو كثيراً، بشكلٍ أو آخر. ربّما وجَدَت في تاريخها السّياسيّ والثّقافيّ ما يُسَوِّغ هذا الرضوخ. فمن النّاحية السّياسيّة، يعرف ذوو البصيرة أنّ الماضيَ، البعيد والقريب، كان حركةً عنيفةً ودامية، غالباً، لا تهدأ من الصّراعات والاقتتال. أمّا من النّاحية الثّقافيّة فقد كان هذا الماضي حركةً لا تهدأ أيضاً من التّنابذ والتّنافي يرمز إليها بعمق هذان العنوانان للكتابين الشّهيرين في الفلسفة الإسلاميّة العربية. الأوّل للإمام الغزالي وهو: «تهافُتُ الفلاسفة»، والثّاني للفيلسوف العربيّ الكبير ابن رشد، وهو: «تَهافُت التّهافُت». يرمز إلى هذه الحركة أيضاً في ميدان الشّعر والنّقد ما قاله أحد النّقّاد العرب عن شعر أبي تمّام، وهو : «إن كان هذا شعراً فكلام العرب باطلٌ». ويرمز إليها في ميدان التصوّف اتّهام أصحابه بالزّندقة والكفر، وقتل بعضٍ من رموزه الكبيرة، وتهميشه وإهماله، على الصّعيد، المؤسّسيّ، بخاصّة. وما يُقال حول الماضي يُقالُ كذلك حول الحاضر، قليلاً أو كثيراً. فنحن لا نتحاور، وإنّما «يعلِّم» بعضُنا بعضاً؛ وكلٌّ منّا يؤمن أنّه هو النّاطِقُ بالحقّ والحقيقة، وفي جميع الميادين، وبخاصّةٍ الثّقافيّة والسياسيّة. المجتمع الذي يؤمن كلُّ فردٍ فيه أنّه على حقّ، وأنّه يمثِّل الحقيقة، يتحوّل إلى مجتمعٍ لا «يتكلّم»، وإنّما «يحارب». لا «يُحاوِر» وإنّما «يستتبع». لا «يحرّر» وإنّما «يستعبد». - 5 - ما تكون، إذاً، «الهويّة الثّقافيّة» في عالمٍ كمثل العالم العربيّ يتكوّن من إثنيّاتٍ مختلفة، وأديانٍ متعدِّدة، ولغاتٍ متنوِّعة ـ وإذاً من تقاليد وعاداتٍ وقِيَمٍ وأصولٍ ثقافيّة متباينة ؟ أكيدٌ أنّه عالمٌ يمكن وصفُه بأنّه «عربيٌّ» و «واحدٌ» بلغته العربيّة المُهَيْمِنة على المستوى المؤَسَّسيّ، وبفضائه الجغرافيّ المترابِط بفعل هذه اللغة وفي حدودها. لكن هل يمكن وصفُه بهذه الصّفة ذاتها، دينيّاً أو إتنيّاً، أو اجتماعيّاً؟ ما تكون، إذاً، «هويّته الثّقافيّة» ؟ أهي «واحدةٌ» وكيف؟ أم هي «متعدِّدةٌ « وكيف؟ - 6 - نلاحظ أوّلاً، أنّ الأسئلة السّابقة تنبثق من طغيان «الماضي» وموروثاته على هذا العالم. وهو طغيانٌ يفرض على «الحاضر ـ المستقبل» أن يثيرها. نلاحظ ثانياً، أنّ «وحدة الهويّة» تفرض غياب التّناقضات التي تؤدّي إلى انشقاقها. وهو انشقاقٌ يؤدّي، خصوصاً في غياب المواطنيّة المشتركة التي تقتضيها على أساس الحريّة والمساواة، إلى غياب الانتماء المجتمعيّ المشتَرَك، وظهور الانتماء الإتنيّ، أو المذهبيّ، أو القَبَليّ. وفي هذا ما يفتِّتُ «الهويّة» و «وحدتَها». ويعمّق الارتباط بالماضي، ويؤدّي إلى إعادة إنتاج «علاقاته» و «ثقافته». وهو ما يعيشه العالم العربيّ، اليوم. طبعاً، هذه إشكاليّات طُرِحَت، سابقاً، بشكلٍ أو آخر، في إطارٍ أو آخر. غير أنّها طُرِحَت في مساراتٍ إصلاحيّة ـ تقوم على التّسويات و «الحلول» الموقّتة والشّكليّة. وقد أثبَتَتْ التجربة فشلَها جميعاً. ويعود هذا الفشل إلى سطحيّة الرّؤية التي صَدَرَت عنها: الرّؤية التي تغلِّب «المصالح» على «الحقائق»، و «الجزئيّ» على «الكلّيّ» و «السّطحيّ» على «الجذريّ». وهي ، إذاً، الرّؤية التي تغلِّب «السّياسيّ» العابر على «الثّقافيّ» الدّائم، أي تغلِّب الفصل الكامل بين السياسة والثّقافة. - 7 - ما يعيشه العالم العربيّ اليوم، إنّما هو اختبارٌ آخر لقدرة العقل فيه على مجابَهةٍ مزدوجة : الماضي «الخاصّ» الذي طَمَسَه كلّيّاً الحاضر «المُشترَك العامّ»، حاضر الغرب الأميركيّ ـ الأوروبيّ، على صعيد العلم والمعرفة، والتّقنية. و «المستقبل» الذي لا مكانَ فيه لهذا «العالم العربيّ» حتّى الآن ـ إلاّ بوصفه فضاءً استراتيجيّاً يهيمن عليه هذا الغرب الأميركيّ ـ الأوروبّيّ، وبوصفه شعوباً وثرواتٍ ليست إلاّ أدواتٍ في هذه الهيمَنة. والمسألة، إذاً، في بدايات القرن الحادي والعشرين هي، مرّةً أخرى يا هَمْلِت: أن يكون هذا العالم أو لا يكون.
مشاركة :