مازال «العنب حصرم حامض لم ينضج بعد!» كان هذا ما ردده الثعلب بعد عجزه عن الوصول لشجرة العنب ويأسه من التهام ثمارها إثر قفزات متتالية دون جدوى، فعوضاً عن أن يعترف بالحقيقة، حاول التقليل من أهمية العنب ليخفف حسرته، وهو ما يسمى في علم النفس التنافر المعرفي Cognitive Dissonance.يميل معظمنا لتبرير تصرفاته حتى لو كانت خاطئة، واتباع نظرية الثعلب مع الحصرم، لأنه يرفض أن يجد نفسه في قفص الاتهام مهما كان مقتنعا داخليا بخلاف ذلك، لذا يميل إلى التحيز لكل ما يؤيد معتقداته وقناعاته الشخصية ويتجاهل ما عداها ليريح نفسه من الصراع، حيث يسعى العقل جاهدًا إلى الابتعاد عن الدخول في دوامة الأفكار المتنافرة.فالمدخنون يعرفون أن النيكوتين مدمر للعديد من وظائف الجسم، لكنهم يتحايلون بعبارات مثل: «التدخين ليس خطيرا للغاية»، أو «كان جدي مدخنا وعاش للثمانين دون تعب».وحين نقوم بإبداء كلمة جارحة نحو أحدهم أو استفزازه، يستثار التنافر الإدراكي داخلنا، لأن ما فعلناه يتنافى مع رغبتنا في أن نكون مهذبين، وإن لم نستطع سحب السلوك بالاعتذار له أو التودد والتعويض، فإن أسهل طريقة للخروج من ذلك الضغط الشعوري والمأزق النفسي تكون بالحط أكثر من شأن الضحية داخلنا لتعزيز مدى سوئه واستحقاقه تصرفنا السيئ. وتثبت الدراسات تلو الأخرى أننا نبرر قراراتنا بعد اتخاذها عن طريق مدحنا القرار الذي اتخذناه وتشويه ما رفضناه، فيلاحظ أن الناس يكثرون متابعة إعلانات المنتجات التي اشتروها بشكل حماسي بعد عملية شراء المنتج لإشعار أنفسهم بأنهم اتخذوا القرار الأنسب.تقبع نظرية التنافر المعرفي خلف عملية الانتقاء التي نمارسها في اختيارنا الوسيلة الإعلامية التي تتسق مع توجهاتنا وعدم متابعة ما عداها من وسائل أو قنوات، وكذلك خلف عملية البحث الانتقائي في الانترنت، والتركيز على المقالات والآراء التي تؤكد ما نعتقده ونشرها على صفحتنا الشخصية أو حسابنا، وإذا قام شخص آخر بلفت انتباهنا لرأي مخالف فالأغلب أننا نواجهه بالرد المندفع والهجوم السريع.ولأن معظم القرارات تتخذ في ضوء التحيزات المعرفية وعدم التنافر فقد يستمر المرء في خداع نفسه بعلاقة خاسرة أو وظيفة مرهقة، وقد يستمر في التعامل الجاهل مع شريكة حياته، أو يربي أولاده بأسلوب خاطئ، وتفهمنا هذه الديناميكية الدفاعية يمنحنا المزيد من الاستبصار في مواقفنا، والابتعاد عن الانتقائية العمياء وصولا للمزيد من الانفتاح على الرأي الآخر .
مشاركة :