جمعتني في أحد مقاهي المدينة جلسة مع مسنين كبار محالين على التقاعد طلبت منهم أن يختصروا لي رواية حياتهم بهذه الجلسة. قال لي أحدهم وهو ينفث دخان سيجارته بتلبد: اسمع يا بني عندما كنت مثلك في فتوة شبابي كنت أعمل بلا هوادة، لم أكن أدرك من الحياة شيئاً غير العمل، فأنا أعمل عشر ساعات في اليوم، وستة أيام في الأسبوع، بالكاد أدرك يوم العطلة لأسترجع فيه أنفاسي. كنت حينها أفكر في هذا اليوم ولقد أجلت الراحة والاستمتاع بالحياة إلى هذا اليوم، ولكن عندما جاء هذا اليوم وأحلت على التقاعد تفاجأت بأن روحي قد شاخت وأصبحت عاجزة عن الشعور باللذة والاستمتاع بالحياة. بصراحة أدركت أن الحياة والحماسة واللذة والرغبة قد شاخت ودفنت بحسرة تحت التجاعيد التي تترهل على جسدي وفي وجنتي. لقد أدركت متأخراً أن حيازة الشيء لا تعني أنك تمتلكه أنا لدي الآن الكثير من المال ومرتب جيد، ولكن أنا عاجز عن الاستمتاع به لم أكن أعلم أن طول فترة الانتظار قد دجن نفسي وجعلها غير قادرة على الطيران والتعشيق مع الحياة بعد هذه المدة الطويلة من الانتظار. تكلم رجل آخر من وسط الجلسة وأنكروا عليه عدم انتظار دوره في الكلام. قال: ماذا ستقولون.. أنتم أصدقائي ومعرفتي بأغلبكم من أيام الدراسة والصبا، أنتم نسخة لما قاله السيد.. قال متفاخراً بنفسه مزهواً، أما أنا فقد عشت حياتي كما أريد استكشفت الكثير وسافرت، عشت حياة حافلة عملت كالعبيد أحياناً لكن لم أرهن حريتي وحياتي لصاحب عمل وبذرت أموالاً كالملوك.. مرت أيام لم أكن أملك قوت يومي، وسكنت في فنادق الدرجة الأولى، ومرت أيام كنت أسكن في شبه منزل بالكاد يقينا من الشمس والمطر.. أكلت في أرقى المطاعم ودعوت إليها زوجتي وكنا ندخلها كأميرين يحتفي بنا المسقبلون.. ومرت أيام كنا نختصر الوجبات لوجبة واحدة في اليوم ولكن كنت دوماً أؤمن أن في هذا الكون وفرة ولن تضيق أو تبخل على المؤمنين بها وأن بقاء الحال من المحال، حالفني الحظ حيناً وخذلني أحياناً أخرى.. عرفت الكثيرين، عملت عامل بناء وعملت مشرف عمل وتقمصت شخصية مقاول ورجل أعمال، عملت تاجراً كسبت الكثير من المال ولكن الحيوية في داخلي كانت متقدة لدرجة أنها تبخر كل ما يستقر في جيبي، تسكعت مع الحمقى، وتعبدت مع الصديقين.. لم أندم على تلك الحياة لم تكن حياة باردة ذات مرة. صارحني أحدهم وقال أتعلم يا صديقي إننا في الوقت الذي كنا نلومك فيه على أسلوب حياتك غير المستقر كنا بداخلنا نحسدك عليه ونتمنى أن لو كنا نعيش كما تعيش، أتعلم أن الاستقرار الذي ترفضه هو ذاته القيد الذي ارتضينا أن نربط به أنفسنا.. كنا نجلس هنا أياماً طويلة وليس لدينا ما نقوله ونقصه لبعضنا غير ما جرى مع مدير العمل أو الموظف الفلاني.. كان ملعبنا في الحياة محصوراً بين البيت ومكان العمل وزماننا محدوداً بما يتركه لنا العمل من فتات وقت نلتقط به الأنفاس، لم نكن نملك الجرأة حتى على الحلم وإذا امتلكناها لم تكن شجاعتنا كافية لملاحقتها. توقف الزمن وسرحت بي الأفكار قام الرجل وأمسك زندي بيده وقال ما زالت أجنحتك طرية لا تكبلها عن الطيران حلّق ترَ غير هذا المكان وغير هذه الوجوه وغير هذا العالم.. سترى العالم أفضل من علو. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :