الشراكة مع مكتبة الإسكندرية هل تعيد علماء الدين للمشهد الفكري مسألة ميادين المواجهة ضد التنظيمات المتشددة تطرح إشكاليات عديدة مترتبة عن القضية، ومنها دور المؤسسات الدينية التي تخلفت عن دورها في مواجهة التيارات التكفيرية وتجريدها من أسلحتها الدينية التي تتسلح بها. المؤسسة الدينية في مصر، على عراقتها وأهميتها، خسرت معركة التجديد الديني، وبددت جهودها في مسائل فقهية جانبية، بل تأخرت في ميادين كان يفترض ألّا تسمح فيها برواج مقولات التشدد، من ذلك أنها لم تأبه لأهمية الفنون والسينما والصورة، وهي مفردات نجحت من خلالها تنظيمات إرهابية في تسويق صورتها. فهل ستتيح الشراكة التي وقعت بين مكتبة الإسكندرية والمؤسسة الدينية المصرية الانتصار الفكري على مقولات الإرهاب؟ العربهشام النجار [نُشرفي2017/01/27، العدد: 10525، ص(13)] ضرورة خروج الأزهر من عزلته نظر مراقبون للشراكة التي أعلنت مؤخرا، بين المؤسسة الدينية ممثلة في علي جمعة، مفتي مصر الأسبق، ومكتبة الإسكندرية، خلال المؤتمر الدولي الثالث لمواجهة الإرهاب، الذي اختتم أعماله مؤخرا، باعتبارها مسلكا جديدا لعلماء الدين وخطوة مهمة لعودتها إلى المشهد الثقافي الحداثي في مصر. وكان إسماعيل سراج الدين مدير مكتبة الإسكندرية وعلي جمعة، قد أعلنا بداية التعاون، الذي من شأنه إمداد المكتبة بالفكر الإسلامي المستنير برؤية عصرية، ليصل إلى جمهور الفنون الواسع. في هذا الإطار اعترف المفتي الأسبق أن التطورات على الساحة، سبقت المهتمين بالتجديد الإسلامي بمراحل، ولم يعد الأمر يحتمل تأجيل مواكبة المتغيرات بتوظيف الأدوات العصرية، وأكد أن المطلوب ليس فقط إنتاجا فكريا مستنيرا، إنما أيضا معالجته ثقافيا ودراميا، ليهضمه جمهور هذا العصر، الذي هو ليس جمهور قراءة أو سماع، وإنما جمهور مشاهدة بصرية وفنون ودراما. لكن البعض من المراقبين، قللوا من أهمية خطوة التعاون التي تم تدشينها مع مكتبة الإسكندرية، ورأوا فيها مجرّد موقف فردي لتيار محدود في المؤسسة الدينية، يتبنى رؤى انفتاحية، ويتبع مدرسة المفتي الأسبق، وسط تيار عام يغلب عليه التمسك بالأساليب التقليدية العتيدة. بينما أكد آخرون أهميتها، بالنظر إلى رعاية ودعم الدولة لها، في ظل تحديات تحتم التنسيق وتوحيد الجهود مع الواقع الثقافي، عقب مرحلة، تسبب فيها الانفصال والتصارع بين المؤسسات الثقافية والدينية، في إضعاف فعالية خطط الدولة لمواجهة الفكر المتطرف. ورأى متابعون للمشهد المصري، أن مؤسسة الأزهر ذاتها، انعزلت عن المشهد الثقافي منذ بداية السبعينات في القرن الماضي، مع تصاعد وتيرة الصراعات الفكرية بين المؤسسة الدينية والمثقفين وقطاع من المفكرين، مكتفيا بأدواته التقليدية، ونتيجة لذلك بدت موازين القوى في ساحة التأثير الجماهيري، من خلال الأدوات الثقافية العصرية، تميل لصالح قوى اعتمدت بشكل كبير على توظيف تلك الأدوات. وضرب هؤلاء المثل، بتنظيم داعش، الذي برع في عرض أفكاره من خلال الصورة والنشيد، وكذلك إيران التي أجادت توظيف القوى الناعمة لنقل رسائلها الثقافية، وفي مقدمتها السينما. وبالرغم من حرص الأزهر على ترسيخ حضوره في المشهد الثقافي خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إلا أنه بدا مؤخرا، أمام إنتاج التنظيمات التكفيرية وتيار الإسلام السياسي من جهة وإنتاج إيران الفني الذي يعالج القضايا الفكرية والتاريخية من جهة أخرى، كأنه لم يكن سبّاقا لهذا الميدان، بل اكتفى بالردود التقليدية، زاهدا في تلك الأدوات العصرية، ذات الجاذبية الشديدة التي تعتمد على التأثير الهائل للصورة في وعي المتلقي. تنظيم داعش برع في عرض أفكاره من خلال الصورة، وأجادت إيران توظيف القوى الناعمة لنقل رسائلها الثقافية وقارن مهتمون بالشأن الثقافي، بين قوة حضور المؤسسة الدينية في الماضي، عندما انتهجت التكاملية مع الواقع الثقافي فحققت الكثير من المكاسب في مختلف البلاد الإسلامية، وبين أوضاعها اليوم التي تعتمد فقط على ردود الأفعال، وعدم القيام بمبادرات تنقلها إلى ساحة الفعل الحضاري. وكم اشتكى كتاب ومبدعون مصريون من تعنت المؤسسة الدينية، ووقوفها أمام معالجتهم الدرامية للتاريخ والفكر الإسلامي، على خلفية آراء فقهية، تحرّم تجسيد الرموز الإسلامية، ولا تنظر إلى الثقافة والفن كأدوات لائقة بقداسة الدين، وهو ما جعل الكثيرين يستبعدون انخراط المؤسسة الدينية في مشاريع ثقافية، حيث تحول دون ذلك محاذير فقهية يتبناها أغلب علمائه. على العكس من ذلك، استطاعت إيران، منذ تسعينات القرن الماضي، أن تجذب الأنظار لطرحها الفكري ومعالجتها للتاريخ وقصص الأنبياء خلال فترة محدودة، والفضل يرجع إلى تطوير أدواتها في المشهد الثقافي. وبهذا التوظيف الثقافي لداعش من جهة، وإيران من جهة أخرى، تنافست قوى على تقديم نفسها كمعبرة عن التصور الإسلامي، وأنها الوحيدة التي تستحق الحديث باسم الإسلام، ومخاطبة العالم بالصورة التي تراها، وبالأسلوب الذي يتوافق مع تفسيراتها للنصوص الدينية. وظل الهدف في جميع الحالات، هو هزّ مكانة المرجعية “السُنية”، ممثلة في الأزهر، وجعلها غير مسموعة الكلمة، وإظهارها بأنها عاجزة عن الفعل الذي يرقى إلى مستوى تأثير ما يقدمه غيرها، حتى لو لم يكن منسجما مع الرؤية الإسلامية الصحيحة. البعض ضرب مثالا على عزلة الأزهر الثقافية، برفضه الدائم لتجسيد صحابة الرسول الكريم على شاشة السينما، ثم توسع بعد ذلك في الحظر، حتى لا تمسّ قداسة الشخصيات الإسلامية. لكن تمّ تجاوز هذه المرحلة التي انعزل خلالها الأزهر تماما عن المشهد الثقافي، عقب قيام ثورة يوليو 1952، وأسهم في ذلك توفر القيادة السياسية، التي حرصت على توحيد جهود مؤسسات الدولة الثقافية والدينية نحو مسار خدمة القضايا الكبرى، من خلال الاستئناس بالتاريخ العربي والإسلامي، وعرض سير الرموز الإسلامية، لدعم قضايا النضال والوحدة العربية، ومقاومة الاستعمار، والحفاظ على الثوابت والهوية. هكذا شهدت فترة الخمسينات والستينات وبداية السبعينات من القرن الماضي، أهمّ مراحل الإسهام الثقافي للأزهر، وهو ما لاقى قبولا واسعا، خاصة وأن السينما العالمية كانت قد بدأت في عرض أفلام عن المسيح واضطهاد دعوته، ومنها فيلم “ملك الملوك”، الذي حقق انتشارا واسعا، وعُرض في مصر في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، فرغبت الجماهير العربية في رؤية إنتاج سينمائي راق يستعرض تاريخ الإسلام والرموز الإسلامية ويعالج قضايا الفكر الإسلامي. تحمّس علماء الأزهر لذلك، عندما وجدوا الرغبة والحماسة لدى الكثير من المنتجين والمخرجين الكبار لخوض التجربة، واستغلال الفن في خدمة الدعوة، وضاعفت من الحماسة كثرة ما قدمته السينما المصرية في تلك الفترة من أعمال، تنتقد الأذواق والعادات الغربية، ومن ثمّ ازدادت الحاجة إلى إنتاج ثقافي يحافظ على كيان مصر وانتمائها العربي والإسلامي. وتهيّأ المناخ للشراكة بين الأزهر والواقع الثقافي والفني حينها، فتمّ إنتاج أول فيلم سينمائي عربي مصري يعالج قضايا دينية وفكرية، ويستعرض التاريخ الإسلامي عبر الصورة المرئية، وذلك بعد حوالي ربع قرن من دخول صناعة السينما إلى مصر. كما كان من علماء الأزهر من أسهم في كتابة سيناريوهات البعض من الأفلام، مثل الشيخ أحمد الشرباصي، ومن المبدعين السينمائيين، المخرج حسين حلمي المهندس وصلاح أبوسيف وحسام الدين مصطفى، ومن الفنانين يحيى شاهين وماجدة ومحسن سرحان وحسين صدقي، الذين كانوا من أشهر من اهتموا بتلك المعالجات الفنية الفكرية. وفي نظر الكثير من الخبراء، خسر الأزهر الكثير من المعارك في اتجاهات مختلفة، سواء في مواجهة ما تنتجه إيران فنيا، أو القضايا الكونية والوجودية التي تعالجها هوليوود، من خلال تناول قصص الأنبياء والرموز الدينية، أو في مواجهة معالجات التنظيمات التكفيرية لأفكارها بالصورة والأدوات العصرية، عندما قابل هذا كله بالردود التقليدية من خلال المادة المكتوبة، وهو ما قلل كثيرا من تأثير طرحه وانتشاره جماهيريا. :: اقرأ أيضاً جدل التطرف: أب مسلم فيلسوف وابنته تنضم إلى داعش
مشاركة :