أهل الكوثر هم أصحاب الخط الثالث في الرواية، وهم يتباينون من مرضى إلى دكاترة إلى زائرين، وتتباين الأمراض التي دخل بها أهل الكوثر إلى عالمهم الجديد، كما تتباين الأسباب التي دفعتهم لدخوله، وهم في مجملهم من أبناء الطبقة الوسطى، فمنهم الشاعر والضابط والمدير وابن رجل الأعمال وغير ذلك، بعضهم يظهر عدة مرات، وبعضهم لا يأتي غير مرة واحدة. ويمكن القول إن المرض الأكبر الذي يعاني منه الجميع هو عدم التكيف، فالشاعر حامد عبدالدايم يرى أنه لم يأخذ ما يستحقه من الاعتراف الأدبي، أما محمود صابر فقد طمع والده في زوجته، ومن ثم وضع له المخدر وزج به في الكوثر، والممثل الفاشل جسن توما؛ عاش في وهم أنه ابن شقيقة أنور وجدي، ثم في وهم أن خالَه هو المخرج والممثل والمنتج الراحل حسين صدقي، وأنه كان أحد مؤسسي الكوثر؛ متناسيا حقيقة أنه كان من المتعاطفين مع جماعة الإخوان المسلمين، وربما انتمى إلى جهازها القيادي فأوصى قبل وفاته بحرق الأفلام التي أنتجها. هكذا يعيش أهل الكوثر حالة من الهروب وعدم التأقلم مع الواقع المرير، لكنهم في الوقت ذاته يعيشون حالة من الانتظار، لأن الكوثر/المكان نفسه مهدد بالإزالة، فثمة ما يتردد عن أن رجل أعمال اشتراه وسوف يزيله ليقيم مكانه برجا، بالتواطؤ مع ورثة مؤسسيه، دون أدنى تفكير في مستقبل هؤلاء الذين لجأوا إليه ليحميهم من عدم القدرة على التكيف مع الصراع المرير في الخارج. ويعد الخط الأهم في النص هو الخط الموازي لحياة حسين والضغوط التي مارستها عليه زوجتاه وفضلا عن سقوط حفيدته في براثن السرطان، هذا الخط هو خط الهم السياسي العام، فالأزمات التي تعرض لها البطل توازت مع الأزمات التي مرت بها مصر بعد ثورة 25 يناير، فقد تأرجحت الثورة ما بين العسكر والاخوان، حيث آلت البلاد إلى سلطة المجلس العسكري، ثم إلى دولة الإخوان التي تركت لتصعد حتى تحقق حلمها الأبدي في السعي نحو السلطة، لكنها سرعان ما تفشل وتصل إلى طريق مسدود فتؤول الدولة إلى العسكر من جديد. هذه التوترات الخارجية، والانتقالات السياسية العامة من اليمين إلى يمين اليمين توازت مع الهزات التي أصابت البطل في المرات الثلاث، وأدخلته المصحة، ومن ثم فكلما ضلت الثورة طريقها تكاثرت الهموم وازدادت الهزات الداخلية للبطل، وزاد التشتت في وضوح الفكرة، والتقاطع في خطوط السرد، وتعددت الشخوص والحكايات والصرخات والرفض، وهو ما جعل النص يبدو كما لو أنه الوجه المقابل لصورة الثورة المصرية، وما جرى فيها من تشتت وهزائم وإصرار أو رغبة في التأقلم مع الواقع الجديد، وأصبح الكوثر بمثابة الوطن الجديد، والثورة الموازية، والحلم بعدالة تشمل الجميع. بوعي شديد قدم علي عطا نصا ينتمي إلى عالم ما بعد الحداثة، هشم فيه الزمن وانتصر على فكرة الترابط الموضوعي الظاهري، لنجد العديد من العوالم المتجاورة رغم تباينها، ونجد الماضي حاضرا في لحظة وقوع الآني، ونجد ما هو خارج الكوثر متداخلا مع ما هو داخله، كما نجد شخوصا واقعية، لكنها لا تزيد عن كونها معادلات موضوعية لما يجري في العالم الخارجي، حيث الصراع الذي أودى بالجميع إلى البحث عن منظومة الكوثر، تلك المنظومة التي لا نعرف إن كانت هي العالم الحقيقي الواقعي، وأن ما يجري خارجها هو مجرد معادلات موضوعية لها، أم أن النقيض هو ما يجري، فالأبطال يتراوحون ما بين كونهم شخوصاً واقعية وحالات رموزية، بداية من أسمائهم ومهنهم وصولا إلى أمراضهم والأسباب التي جاءت بهم إلى الكوثر. في حين أن ما يشهده الواقع السياسي والاقتصادي والثقافي خارج الكوثر أصبح أكثر من فانتازي، ولا يمكن القول بواقعيته إلا بوصفه معادلا لما يجري في الداخل، سواء داخل الكوثر أو داخل الذات الساردة، ورسائلها المطولة بينها وبين الآخر، أو الطاهر يعقوب، ذلك الآخر الذي لا نعرف إن كان حقيقة أم معادلا موضوعيا لانقسام الذات أم حيلة فنية لاتساع السرد وتعدده. يبدو عالم الكوثر بسيطا ومثالياً، يبدو كما لو أنه الجنة المفقودة، لكن ذلك من الظاهر، حيث يمكن الفصل ظاهريا بين السماء والأرض، بين الواقع والمأمول، بين المتخيل والمعاش، لكن بقليل من المعايشة نكتشف أن كل الخطوط والعوالم متداخلة، وأنه لا وجود للجنة في ظل احتدام الصراع، لا وجود لراحة أو شعور بانتماء ما لم نتقبل الآخر كما هو، دون رغبة لتغييره أو وضع وصاية عليه، حين نصل إلى ذلك فربما نكون قد وصلنا إلى الكوثر ذاته، أما ما عدا ذلك فإننا سنظل نحوم حوله، أو بحسب تعبير عطا نعيش على "حافة الكوثر".
مشاركة :