«يمّه ودي ادرس بمريكا»، هذا ما روته لي والدتي -رحمها الله- عندما أتتها نسوة من جاراتها بالقرية -قرية النبك أبو قصر (قرية نائية في وسط الصحراء لا يوجد فيها كهرباء ولا خدمات في ذلك الحين) وسط منطقة الجوف-، يحاولن أن يقنعنها لكي تثنيني عن الذهاب إلى أمريكا لإكمال الدراسات العليا (الماجستير والدكتوراه) في تخصص الهندسة، قد يكون خوفاً عليَّ أو غيرة، فردّت عليهن: «هذه أمنيته عندما أحضر لي كتاب الجغرافيا -الصف الرابع ابتدائي- وأشار لي على خارطة أمريكا وقال: أريد أن أدرس هناك «، وأكملت بلغة الواثق بأمر الله: « هذه أمنيته وهو صغير ولن أقف أمامه عائقاً وإن كان خوفاً عليه فالله الحافظ وهذا لن يمنع عنه يومه هنا أو هناك، قد يموت بسبب لدغه عقرب أو أفعى وهو نائم عندي». وبالرغم من أنها -رحمها الله- لم تكن متعلمة إلاّ أنها كانت بعيدة النظر، صائبة القرار، مؤمنة بقضاء الله وقدره: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}. وخلال دراستي وعملي وغربتي عنها التي تجاوزت ثلاثة عقود، بدءاً من انتقالي إلى مدينة طبرجل المجاورة لدراسة الثانوية مع عملي المؤقت خلال الإجازات الصيفية كمخلص جمركي في جمرك الحديثة، وبعدها إلى الرياض لدراسة الهندسة بجامعة الملك سعود، ومن ثم العمل معيداً بمعهد الإدارة العامة بالرياض، والسفر إلى أمريكا لإكمال دراساتي العليا وعودتي إلى المعهد، وتكليفي بالمشاركة في تأسيس جامعة الجوف في مدينة سكاكا - الجوف، منتهياً بي المطاف عضواً بمجلس الشورى حتى وفاتها، لم تخبرني بأي خبر سيئ يُكدر حياتي أو يؤثر على مسيرتي العلمية أو العملية، حتى ان عمي وعمتي المقربين لقلبي توفيا وأنا في الغربة ولم أعرف عنهما إلا عند عودتي، والكثير من أقربائي توفاهم الله -عليهم رحمة الله- ولم تبلغني وتوعز للآخرين من الأقرباء ألاّ يخبروني حتى أعود. فبحسِّها الصادق أدركت مبتغاي، وبحدسها وذكائها الفطري قرأت مستقبلي، ومن قسمات وجهها ونظراتها ألمح خليط الرضا والإكبار والتضحيات على محياها، ابتهاجاً وسروراً بعد الحصول على شهادة عليا أو مكانة وظيفية مرموقة. حتى عندما تمرض تُخفي عني مرضها مهما كانت شدته وتؤنب من يخبرني، وفي آخر أيامها عندما أُدخلت إلى المستشفى في القريات من شدة المرض، سألتني وهي بالكاد أن تتحدث « من أخبرك بدخولي المستشفى حتى تأتي من الرياض!»، فها هي تعطيني دروساً حتى في أحلك ظروفها ... رحمك الله يا ملهمتي. كانت كريمة اليد سخية العطاء، تبادر بالمساعدة وتقديم الواجب، تذكرني وتحثني على عمل الخير لأشخاص بالاسم، تعرف حالتهم وحاجتهم، حتى وهي في لحظات اشتداد المرض ومصارعتها للموت، في آخر أيامها تُصر على تقديم المعونة المالية «النقوط» من يدها الهزيلة لإحدى قريباتها عندما زارتها للاطمئنان عليها ودعوتنا لحضور زفاف ابنتها. فمن خصالها الكثيرة السعي بالصلح على قدر استطاعتها، منها ما ذكره لي أحد الأقرباء أن جهودها أثمرت بعودة ابنه إلى زوجته بعد طلاق وفراق... وما أكثر مناقبك ومواقفك يا فقيدتي. لا أذكر أنها أنّبتني على خطأ اقترفته أو أثقلت عليَّ بطلب طوال حياتها، كانت حريصة بكل ما له علاقة بي، فهي لم تحتفظ بمقتنياتي المادية في خزنتها الحديدية فحسب، بل احتفظت بكلماتي وأحاسيسي بعقلها وفؤادها كشعلة تنير مستقبلي... ما أروعك يا أمي. في صبيحة الثلاثاء 5 / 4 / 1438 هـ غيّب الموت عفيفة اللسان، طاهرة القلب، لطيفة المعشر التي لم تؤذ أحداً قط، المحتسبة والصابرة على غربة فلذة كبدها. رحمك الله -أيتها العظيمة- يا من شاطرتني ألم غربتي وكفاحي ومن صبرك حققت طموحاتي، وبكلماتك الحانية مهدتِ طرق نجاحي، فقد كُنتِ ملهمتي وسيرتي وسر نجاحي ومداد روحي وما زلتِ... ترددت كثيراً في كتابة هذا المقال عن فراق والدتي، والذي لم يدر بخلدي يوماً ما، فما أصعبها من لحظة، وما أصعب الكتابة بحبر الدموع وبأيدٍ مرتعشة وعجز قاموس عن استخراج عبارات تليق بها، ما أصعب اختزال حنانها وصبرها ومشاعري نحوها في مراحل حياتي في كُليمات محدودة، فمهما كانت معبِّرة وصادقة لن تؤدي ما يدور في ذهني وخاطري وتترجم مشاعر حزني وألم فراقها، فالألم يحرض على الكتابة، لكنه حين يكون عن فراق الأُم يصبح عائقاً عن الكتابة، إلا أنني تحاملت على نفسي والتقطت يراعي وكتبت هذا المقال مجتهداً من باب التذكير بفضل الأم وذكر مآثرها ومحاسنها للدعاء لها، اللهم أجز أُمهاتنا عنا خير الجزاء. وأختم بقول الشاعر: مداد القلب لن يكفي ولو أكتب به لإرضائك وخفق الروح لن يجزي عبيراً فاح بعطائك
مشاركة :