شاءت الأقدار أن تحل على العراقيين والأمة العربية الذكرى السادسة والتسعون لتأسيس الجيش العراقى وهو يخوض أكبر عملية عسكرية منذ الغزو الأمريكى للعراق فى العام ٢٠٠٣، حيث أخذ على عاتقه تحرير مدينة الموصل (شمال العراق) من تنظيم داعش الإرهابي، الذى استولى على ثلث مساحة العراق قبل ما يزيد على عامين ونصف العام. وفى صور متعددة مخالفة لكل الشرائع والقوانين والأخلاق قام «داعش» بارتكاب أبشع جرائم القتل فى التاريخ بحق المدنيين العزل، فقد تفنن فى استحداث أنواع القتل، بل وراح يسجلها ويبثها على شبكة الإنترنت ليرهب الأبرياء فى كل مكان. فقد اشتهر «داعش» بقطع الرؤوس، والقتل حرقا وغرقا، والقتل من الظهر لمن توثق أياديهم، كما اشتهر بسبى وبيع النساء، وهى أفعال إن دلت فإنما تدل على أخلاق الجبناء ومعدومى الشرف والضمير وكل من تجرد من معانى الإنسانية. وبعد أن استقر «داعش» متمركزا فى مناطق نينوى والفلوجة وتكريت والأنبار وصلاح الدين فى العراق، وفى حلب وإدلب ودير الزور والرقة فى سوريا، وقام بعمليات القتل والتخريب والسرقة والتطهير العرقى وهدم الآثار الدالة على حضارة العراق والشام وفق مفاهيم مرفوضة دينا وقانونا وأخلاقا، شُكِلَ حلف عسكرى من حوالى ٣٦ دولة بقيادة أمريكا للقضاء على التنظيم المتطرف وبدأ محاربته فى سبتمبر ٢٠١٥، ولكن للأسف لم ينجح الحلف الذى اعتمد على الضربات الجوية فى القضاء على «داعش». واليوم وببسالة منقطعة النظير تتخذ الحكومة العراقية قرار الحسم بعد أن أدركت أن الخطر الذى يهدد شعبها لن يدفعه سوى جنوده من أبطال القوات المسلحة العراقية، فكان قرار القائد العام للقوات المسلحة ورئيس الحكومة العراقية حيدر العبادى بأن تنطلق أكبر عملية عسكرية ينفذها الجيش العراقى منذ العام ٢٠٠٣ لتطهير مدينة الموصل (ثانى أكبر المدن العراقية) من تنظيم داعش الإرهابي، فانطلقت المرحلة الأولى من العمليات العسكرية فجر السابع عشر من أكتوبر ٢٠١٦ والتى أطلق عليها «العبادي» اسم «قادمون يا نينوى». بدأ الجيش العراقى المهمة بشرف وأمانة فى واحدة من أشرس المعارك ضد التنظيمات الإرهابية فى عالمنا العربي، رغم أن معه جهاز مكافحة الإرهاب المتخصص فى محاربة التنظيمات الإرهابية وبإسناد من قوات الشرطة الاتحادية وقوات الحشد الشعبى وقوات البيشمركة الكردية، لينحصر دور التحالف الدولى على الضربات الجوية والتدريب والمشورة. أما المواجهات الميدانية فتحملها جنود الجيش العراقى بصدورهم المفتوحة فى ساحات القتال إما بالنصر ورفع العلم العراقى فوق الأراضى المحررة من «داعش» وإما بالشهادة. لقد أخذ الجيش العراقى المبادرة وأناب نفسه عن العالم لاقتلاع جذور «داعش» من بلاده بعد أن أصبح خطرا يهدد كل بقعة فى أرجاء المعمورة، وراح لينفذ مخططه فى محاصرة التنظيم المتطرف فى الموصل من محاور الاتجاهات الأربعة (الشمال، الشرق، الجنوب، الغرب) وفق خطة عسكرية سارت ببطء فى المرحلة الأولى حفاظا على أرواح المدنيين من سكان الموصل (حوالى ما يقرب من مليونى مواطن) وممتلكاتهم وكذلك الحفاظ على المرافق والبنية التحتية للمدينة، فلم يستخدم الجيش الأسلحة والمعدات الثقيلة فى المرحلة الأولى؛ وهو ما يدل على حرفية الجيش العراقى ومهنيته العالية، بالرغم من إقدام «داعش» على استخدام المدنيين كدروع بشرية فى مواجهة الجيش وتفخيخهم للسيارات وزرع العبوات الناسفة فى الشوارع ما أعاق تقدم الجيش، واضطراره لحرب الشوارع مع عصابات «داعش». وبالرغم من كل ذلك أنهى الجيش العراقى المرحلة الأولى محققا عددا من الانتصارات على «داعش» ليبدأ المرحلة الثانية فى أواخر ديسمبر الماضى، ليعلن منذ أيام عن تحرير الساحل الأيسر (المنطقة الشرقية) لمدينة الموصل بالكامل من عصابات «داعش»، على أن يبدأ مهمة أصعب لتحرير المنطقة الغربية للموصل؛ نظرا للطبيعة الجغرافية، حيث إن الساحل الأيمن يعتبر مدينة الموصل القديمة ذات المعالم التاريخية، حيث تتميز بشوارعها وأحيائها الضيقة على عكس الساحل الأيسر التى كانت المناطق فيها مفتوحة بشكل أكبر. وبانتهاء المرحلة الثانية لعمليات الموصل العسكرية ينتظر العالم أن تزف إليه الحكومة العراقية خبر النصر على «داعش»، ولتبدأ بالتوالى عمليات التخلص من هذا التنظيم العفن فى سوريا (حيث آخر معاقله فى الرقة) وفى كل بقعة له فيها امتداد أصيل أو تابع له، وهو ما يقوم به حاليا الجيش المصرى من حرب ضروس ضد هذه التنظيمات فى شمال سيناء فى عملية واسعة وهى المرحلة الثالثة من حق الشهيد. إن مستقبل العراق السياسى وازدهار نشاطه الاقتصادى مرهون بانتصارات جيشه على آفة العصر (داعش)، ما جعل العراقيين يتحركون مبكرا لصياغة مبادرة يتصالح فيها كل الطوائف وكل التيارات السياسية ليندرج الجميع تحت مظلة الوطن فينصهروا فى وطن واحد للجميع لا فرق فيه بين مسلم شيعى أو مسلم سنى أو مسيحى أو صابئى أو إيزيدي.. بل تعدد هذه الطوائف وانسجامها فى العيش معا فى وطن واحد هو أكبر دليل على عراقة حضارته ورُقى شعبه.
مشاركة :