تزخرُ المكتبة العربية بكثيرٍ من كتب التاريخ التي أرَّخت لجميع العصور، لكننا في هذه الوقفة سنعرض لتاريخين كُتبا في حقبة واحدة؛ وهي الحقبة العباسية، وهما: تاريخ خليفة بن خيَّاط، وتاريخ الرسل والملوك لأبي جعفر الطبري، وهما من التواريخ المهمة، التي تنبع من تقدمهما الزَّمَني، وحفظهما لكتب فُقِدت ولم يبق لنا غير تلك النقول منها. إن مقارنة سريعة في منهج هذين التاريخين يكشف لنا أن الرِّواية عَلَتْ في مادة الكتابين على المعاصرة، فالمؤلفان استهلكا أكثر كتابيهما في سرد مروياتٍ مسندةٍ عمَّن سبقهم، فنجد السنين التي سبقت عصر المُصنِّفين مُتضخِّمةً، فيما تضاءلت أحداثُ السنين التي عاصرها المصنفان حتى أصبحت لا تُشكِّل إلّا جزءاً يسيراً من الكتاب. فتاريخ خليفة بن خياط جاء في 431 صفحة، تشكل منها السنين التي عاصرها المصنف من 160ه وحتى وفاته 240ه خمسين صفحة؛ أي ما نسبته 11% من التاريخ، أما الطبريُّ الذي ختم تاريخه بقوله: «فما كان متأخراً ذكرناه برواية السماع». فقد جاءت تلك الأخبار التاريخية المروية بالسماع في قريب من جزءٍ مِن تسعة أجزاء؛ أي بنسبة 11% متفقاً في ذلك مع تاريخ خليفة، ولا شك في أن المؤرخين سمعا وعاينا أحداثاً كثيرة، تتجاوز ما ذكراه في تاريخهما، لكنهما آثرا تجاوزها، جاعلين من الرواية تعلو على المعاصرة والمعاينة.
مشاركة :