"شيخ في جلباب أبيه" يرث أكبر الطرق الصوفية بالمغرب

  • 2/3/2017
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

الرباط - "مات الشيخ.. عاش الشيخ" هكذا تنتقل مشيخة الطريقة البودشيشية القادرية وفق وصية مكتوبة ومختومة من الشيخ الراحل إلى سلفه في طريق "الولاية" الصوفية، كما تنتقل ولاية العهد في الأنظمة الملكية. لذلك لم يكن مفاجئا أن يخلف جمال الدين الابن البكر والده الراحل الشيخ حمزة بن العباس البودشيشي على رأس الطريقة "البودشيشية القادرية"، أكبر الطرق الصوفية في المغرب، حتى قبل أن يتم الكشف عن وصية الشيخ الراحل، التي خطها قبل أكثر من 26 عاما. وتقول وصية الشيخ حمزة المحررة بمقر الزاوية بمداغ شرقي المغرب، في 3 أكتوبر/تشرين الأول من عام 1990، والتي كُشف عنها بعد يومين على وفاة الشيخ عن عمر 95 عاما، في 18 يناير/كانون الثاني الماضي، إن "الإذن الذي لدينا في تلقين الذكر والدعوة إلى الله على طريق الافتقار إليه، هذا الإذن ينتقل بعد مماتنا إلى ابننا الأرضي مولاي جمال الدين". وكما لو كان يريد توضيح أن طريق مشيخة الطريقة ليست بالنسب فقط، قال الشيخ حمزة، الذي قضى 45 عاما على رأس الطريقة البودشيشية خلفا لوالده الشيخ العباس، في وصيته: "فسيدي جمال وهو من صلبنا الترابي قد نشأ على الطهارة كما يعرفه الأقارب والأباعد وقد هيأه الله لأحوال الذكر السنية التي نشأ عليها ونبت حتى تحقق له ميلاد جديد من الصلب الروحاني لهذه الطريق". في هذه الوصية حرص الشيخ حمزة على توجيه خطابه لمريدي الطريقة بقوله "فوصيتنا لكافة المريدين لوجه الله تعالى رجالا ونساء من أخذوا عنا العهد على التوبة إلى الله أن يبادروا بتجديد العهد لوارثنا الأوحد والمأذون الأرشد، ونصيحتنا لهم أن يعظموا الرابطة بينهم وبينه تعظيما لبنيانها المرصوص بعبارة التوحيد لا إله إلا الله". ولم ينه الشيخ حمزة وصيته دون أن يحذر المريدين بقوله إن "من خالف العمل بمقتضى هذه الوصية فإننا والطريقة منه براء". التواري عن الإعلام وظل جمال الدين البودشيشي ملازما لوالده بمقر الزواية بمداغ، لعقود، متواريا عن الإعلام، والأنشطة العامة، رغم الاهتمام الكبير الذي تحظى به الزاوية في العقد الأخير، خصوصا في ملتقاها السنوي الذي تنظمه في ليلة ذكرى المولد النبوي، والذي يحج إليه الآلاف من المريدين من المغرب وخارجه، مع التركيز على المريدين الأجانب الذين يقولون إنهم اهتدوا إلى الإسلام عن طريق هذه الزاوية. كما تتردد أنباء عن انتساب مسؤولين كبار في الدولة للطريقة، بينهم وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي، أحمد التوفيق، و"الحظوة" التي أصبحت تحظى بها الطريقة لدى الدولة. ورغم ما سبق، ظل جمال الدين متواريا، ولا يظهر إلا في صورة وهو بجانب فراش والده الذي يتوسط المريدين ليلة المولد النبوي، في السنوات الأخيرة، بعدما أعيته السنون. ولا يعرف لشيخ البودشيشية الجديد لقاءات بالإعلام، وحتى الفيديوهات القليلة جدا التي يظهر فيها على موقع تبادل مقاطع الفيديو الشهير "اليوتوب" لا يخرج حديث الرجل عن بعض الكلام العام في حضرة مريدي الطريقة عن التصوف والذكر، فيما لا تخطأ العين الحضور الكبير لابنه الشاب منير، في وسائل الإعلام المحلية والدولية، متحدثا عن الطريقة داخل المغرب وخارجه. وبجلبابه المغربي الصوفي ناصع البياض، ولحية بيضاء، وطاقية صوفية بيضاء كذلك، ووجه لا تفارقه الابتسامة، وهو إلى جانب والده الشيخ حمزة انطبعت صورة جمال الدين في أذهان مريدي الطريقة والمتتبعين، وعلى نفس الهيئة ظهر يوم جنازة والده وهو يتلقى العزاء من 3 مستشارين للعاهل المغربي، ووزيري الأوقاف والداخلية. ولم يفرغ جمال الدين البودشيشي من عزاء والده في "مداغ"، حيث مقر الزاوية، حتى طار إلى مدينة الدار البيضاء، حيث استقبل من طرف العاهل المغربي الملك محمد السادس لتقديم العزاء. وعلى إثر هذا الاستقبال الملكي رفع جمال الدين رسالة تعزية للملك محمد السادس، تقدم فيها باسمه، وباسم عائلته وسائر مريدي ومريدات الطريقة البودشيشية القادرية، داخل المغرب وخارجه بالتعزية في وفاة الشيخ حمزة الذي "الذي كرس حياته لتربية روحية تغرس في الأنفس قيم التقوى وأخلاق الفضيلة". وقال إن والده شيخ الطريقة الراحل "كان يحمل لجلالة الملك محبة روحانية خاصة، نابعة من اتباع سنة القائمين على طريقة تزكية النفوس من الصوفية الربانيين، الذين يعرفون للإمامة العظمى، إمارة المؤمنين حقها، إقرارا بدورها في حماية الدين، وحماية الأنفس والأموال والأعراض". سر والده ويحكي جمال الدين، بعد الإفراج عن وصية والده، وقراءتها في محفل كبير لمريدي الطريقة، عن قصة هذا الوصية، فيقول إنه بعد صلاة فجر أحد أيام عام 1990، وبعدما استأذن والده في الانصراف للراحة بعد طلوع الشمس، "استبقني قليلا حتى يطلعني على أمر فقام بفتح خزانة صغيرة بجابنه، أخرج منها وثيقة أعطاني إياها فإذا هي وصيته لي من بعده، فلم يكن لي أن قلت له أطال الله عمرك". وكما لو كان يريد أن يبعد عنه أي شبهة بالسعي إلى خلافة والده، قال جمال الدين: "لم أطلب هذا الأمر، وما طلبت شيئا من والدي، فهذا سر لم يسبق لي أن أفشيته، بل أخذت الوصية ووضعتها في مكان آمن". وأضاف أن والده كان يلمح له بخلافته من بعده شيخا للطريقة قبل ذلك بسنين بقول الوالد لابنه "اللي عندي عندك" (السر الذي عندي عندك)، موضحا "كنت أفهم هذه الأمور لكن لا أتحدث معه فيها، بل كان ردي أسأل الله أن يطيل عمرك". مريدي الطريقة لم يكونوا يرون في جمال غير امتداد روحي لأبيه الشيخ حمزة، فهذا إبراهيم بنلمقدم، أحد مريدي الطريقة، يخاطب جمال الدين بحضرته في أحد الفيديوهات على موقع يوتوب قبل حوالي سنتين، قائلا: "سلام من الله على حبنا سيدي جمال، ولا أدري هل حالكم مثل حالي كلما ذكرت سيدي وحبي جمال، فكلما رأيته إلا وكأني بسيدي حمزة فأحار في أمري، أجمال هو أم حمزة"، ليصيح المريدون "هو هو". الطريق إلى الطريقة "هو الشيخ العارف بالله، معدن الحقيقة، ومُتجلّى الشريعة، صاحب الفيْض الجَمالي، والعزّ الكَمالي، الواصل الـمُوَصِّل، سيدي أبو مُنير جمال الدّين"، هكذا تقدم الطريقة البودشيشية شيخها الجديد، الذي ولد عام 1942 بقرية مداغ، التابعة لمحافظة "بركان" شرقي المملكة، حيث مقر الزواية، قبل أن تضيف أنه "نمت دوحته المثمرة، في ربوع الزّاوية القادرية البودشيشية المباركة، نهلا من أنوارها، وعبّاً من علوم الحقائق والرّقائق والدّقائق بها". وبعد حصوله على الثانوية العامة في مدرسة "مولاي إدريس" الشهيرة بفاس، التحق بكلية الشريعة بالمدينة ذاتها ليحصل على البكالوريوس. وإلى الرباط انتقل لمتابعة دراساته العليا بدار الحديث الحسنية ليحصل على دبلوم الدراسات العليا (ماجستير) في العلوم الإسلامية والحديث. ولم يبتعد جمال الدين البودشيشي عن التصوف في أبحاثه الجامعية، حيث قدم رسالته لنيل دبلوم الدراسات العليا، عام 1995، ثم سار في أطروحته لنيل الدكتوراه، بدار الحديث الحسنية، في مواضيع لصيقة بمساره في الحياة والطريقة هو "مؤسسة الزاوية بالمغرب، بين الأصالة والمعاصرة"، سنة 2001، وهي الأطروحة التي استهدف بها "تجديد أداء مؤسسة الزاوية في الواقع المعاصر". عمل جمال الدين البودشيشي بالتعليم لسنوات، قبل أن يعمل بتفقد الكتاتيب القرآنية وتوجيه وإرشاد المربين بها، في إقليم بركان.

مشاركة :