محمد ولد محمد سالم أنجز مجموعة من الفنانين الشباب جدارية من فن الغرافيتي بامتداد 100 متر في خورفكان، كجزء من فعاليات مهرجان خورفكان المسرحي الذي نظم في 27 يناير المنصرم، وشارك في الجدارية من الإمارات كل من فاطمة عبد الباقي، ووصال آل علي، وعادل الحوسني، وخالد الظنحاني، ومحمد الجنيبي، ومن الأردن ملك إبراهيم، ومن أمريكا أنتوني لامار، وأقيمت على جدار قبالة ساحة العروض الرئيسية على الشاطئ، وحفلت بكتابات ورسوم تتناول التراث والثقافة ومشاهد الحياة في الإمارات، إضافة إلى مشاهد من ثقافات متعددة تشارك في المهرجان، وقد أصبح إنجاز هذه الجدارية نشاطاً ثابتاً من أنشطة المهرجان، حيث يستمر العمل فيها على مدى أسبوعين آخرهما يوم المهرجان، وهي تعكس نوعاً من الممارسة الفنية المتزايدة في الإمارات. أصبح هناك شباب كثر يتوجهون إلى هذا اللون من الفن، يحدوهم هاجس العمل الحر في الهواء الطلق، لا قواعد تحكم عملهم، ولا حدود لأعمالهم، ومجالات تعبيرهم، وحيث اللقاء المباشر مع المتفرج الذي يتابع، ولهذا أحب بعض الشباب هذه الحرية، وأصبحوا يقبلون على هذا الفن، يجربون فيه مواهبهم وخبراتهم، ويطرحون من خلاله أفكارهم، وهو ما يدفع إلى توقع اتساع دائرة ممارسته في المستقبل. فن الجرافيتي، ويسمى أيضاً فن الشارع، هو الرسم على الجدران بالألوان والكلمات، وقد عرف في أوروبا كممارسة فنية في بداية القرن العشرين، ورسخته الحركات الاحتجاجية في أمريكا في منتصف القرن العشرين، وأطلق عليه، اسم غرافيتي بالإيطالية، لأنه يجمع بين الرسم والكتابة الطباعية، لكنه كممارسة تعبيرية قديم قدم البشرية، يظهر في آثار حضارات العالم، ومن أشهر نماذجه الكتابات المصرية القديمة على جدران الأهرامات. ارتبطت نشأة فن الغرافيتي حديثاً بالحركات الاحتجاجية، وقد وصف أيضا بأنه فن الفقراء، والطبقات الاجتماعية المسحوقة التي وجدت فيه وسيلة مباشرة سهلة، وغير مكلّفة للتعبير عن ذاتها، واستخدم كشكل من أشكال التعبير السياسي عن الرفض والاستنكار للواقع، وللمطالبة بالتغيير، وقد كان ذا أثر فعال في تغيير أوضاع سياسية واجتماعية في أمريكا وأوروبا، بشكل خاص، وفي البداية اعتبرت مؤسسات القانون وأجهزة الحكومة هذه الممارسة تخريبية، لأنها كانت تنجز أعمالها على أبينة وممتلكات عمومية وخصوصية من دون إذن الدولة ولا الملاك الخصوصيين. مع اتساع الحركة، ونجاحها في كفاحها ضد أشكال الظلم، بدأ الاعتراف بها، وقد استطاعت مدينة فيلادلفيا عام 1984 تحويل فوضى الكتابات الغرافيتية إلى لوحات فنية تزين واجهات المدينة، وشوارعها، وتبعث فيها الفرح، وذلك بإقامتها برنامج تدريب فني لتأهيل العديد من الشبان الذين كانوا يمارسون هذا الفن بعشوائية، فتمكنوا من التعبير عن احتجاجهم، وآرائهم بفن واحترافية، ومن ثم أخذت البلديات في المدن الكبرى تخصص لهم أماكن خاصة لممارسة فنها. أما في الإمارات فإن الظاهرة لا تزال وليدة، وقد بدأ ظهورها الأول من خلال أنشطة بعض الغاليريهات، فقدمت صالة أوبرا العالمية أغسطس عام 2012، في مركز دبي المالي العالمي معرض فن الشوارع، وشمل أعمالاً غرافيتية لخمسة فنانين عالميين مشهورين في مجال الغرافيتي، هم ريتشارد ميراندو المعروف باسم سيين، تييري جوتا المعروف باسم مستر برينوش، تشارلز مونكا، بول أليكسيس، بليك لي آت، ومحمد خداشناش، وقدم المعرض موضوعات مختلفة من خلال الرسومات والكتابات ذات التأثير الوجداني العالي، وضمّت رسوماً لوجوه مشهورة وأخرى مغمورة، وكلمات مختزلة باعثة على التأثير الوجداني، ونصوصاً وكلمات منظمة، وأخرى كتبت بعشوائية من أجل إحداث التناقض الباعث على التفكير، فجاءت الأعمال بانوراما لونية، تحتشد فيها الأفكار والرموز وتترك للمتفرج مساحات واسعة من الإحساس والتخيل والتفكير. وفي مارس/آذار عام 2014 نظم غاليري كورت يارد في دبي عرضاً حول فن الجرافيتي قدم فيه الفنانان بينتي بينت، وذا دوت ماستر أعمالاً فنية على الهواء مباشرة بحضور حشد من الجماهير، وفي رمضان الماضي تزينت شوارع ومباني ومتاجر منطقة الكرامة بدبي بأعمال غرافيتية لمجموعة من الفنانين الماليزيين البارزين تسمى مجموعة نيوبا، وفي أبوظبي نظمت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي وخلال مهرجان فن أبوظبي 2016 فعالية خاصة بفن الشارع ضمّت مجموعة من أبرز فناني الغرافيتي في العالم بإشراف المنسق الفني فابريس بوستو وطرح البرنامج بعداً جديداً لفن الشارع عبر ابتكار هياكل معمارية من حاويات الشحن موزعة على جميع أرجاء المدينة، وقام الفنانون برسم أعمالهم المختلفة عليها، فجاءت تحفاً فنية رائعة زينت المدينة، ومن بين الفنانين المشاركين الفنان كليون بيترسون من ولاية كاليفورنيا الأمريكية الذي طور رموزاً جمالية في جوهر التصميم الغرافيكي، وأسلوباً يستمد إلهامه من الأواني اليونانية والرومانية القديمة، ويصور عمله حالة العنف السائدة في العالم نتيجة التخلي عن المعايير الأخلاقية والسعي المصالح الشخصية، ومن المشاركين أيضاً الفنانان البريطانيان سيا، وبو اللذان يشكل فن الجرافيتي، وفن الشارع مشروع حياتهما المفضل، ومنهم أيضا الفنانة الهندية أنبو فاركي، المقيمة في نيودلهي، التي تعتبر واحدة من مبدعات فن الشارع، حيث تستحضر ابتكارات الفن الغربي الكلاسيكي، وتتناول طيفاً واسعاً من الموضوعات بدءاً من الرسم الواقعي للأشخاص وصولاً إلى المناظر الطبيعية التي تكشف عن الحالة الذهنية والعاطفية في داخلنا. وشاركت أيضا الفنانة فاطمة محيي الدين بأعمال عنوانها الأبرز الخطوط السوداء العريضة، وهي تستوحي إلهامها غالباً من الرموز الثقافية الحيوانية لتعكس روح الابتكار والحرية والإنسانية، كذلك حضر الفنانان ليك، وسووات اللذان يشكلان ثنائياً منذ عام 2010، حيث يتشاركان الاهتمام بفن الغرافيتي، والبحث عن هياكل عمرانية متميزة لإقامة أعمالهما عليها. وفي ديسمبر الماضي أطلقت براند دبي التابعة للمكتب الإعلامي لحكومة دبي مشروع شارع الثاني من ديسمبر بمشاركة مجموعة من أهم وأشهر رسامي الغرافيتي في العالم إلى جانب فنانين إماراتيين شباب، ونفذ المشاركون 16 جدارية مستلهمة من تاريخ الإمارات وتراثها الثقافي والاجتماعي وقدموها بأسلوب إبداعي يتماشى مع المشهد الحضاري المتجدد للإمارة، ومن أهم الجداريات التي نفذت خلال المشروع، تلك التي نفذها الفنانان ضياء علام، المقيم في الإمارات، مع الفنانة الإماراتية أشواق عبد الله، وجمعت بين الرسم والخط العربي يظهر فيها صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، في طفولته بصحبة والده المغفور له الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيّب الله ثراه، يطالعان كتاباً، وعلى جانب الجدارية يظهر بيت من قصيدة فخر الأجيال لسمو الشيخ حمدان بن محمد بن راشد آل مكتوم، ولي عهد دبي، نصّه: يقولون اختصرت أجيال وأقول أنت فخر الأجيال. ومن الذين شاركوا أيضا في المشروع الألماني كايس ماكلايم، وهو أحد أشهر رسامي الجداريات في الوقت الحالي حيث تمتد مسيرته الفنية على أكثر من 20 عاماً، وهو عضو مؤسس في حركة ايست جيرماني ماكلايم كرو الفنية الشهيرة، فضلاً عن كونه من رواد مدرسة الواقعية التصويرية، وتنتشر أعماله في أكثر من عشرين بلداً، وصورت الجدارية التي أبدعها ماكلايم يد صياد إماراتي يجهز القرقور لصيد الأسماك، واستخدم عند تنفيذها رذاذ الطلاء، كما هو الحال في معظم جدارياته، كما رسم جدارية أخرى تظهر فيها يد امرأة إماراتية مزينة بالحناء مع دلة القهوة والفنجان. ومنهم أيضا الفنان الليتواني ايرنست زاتشاريفتش الذي ينتمي إلى مدرسة الفن المعاصر، كما انه نحات موهوب تُعرض أعماله الفنية في الكثير من المتاحف والأماكن العامة، وقد صورت الجدارية التي نفذها سبعة أطفال يرمزون إلى إمارات السبع التي شكلت اتحاد دولة الإمارات، وقبيل تنفيذ العمل الفني، قام زاتشاريفتش بعدة جلسات تصوير مع الأطفال الإماراتيين حتى تمكن من التقاط صورة مناسبة لتنفيذها كجدارية. أما الفنان الفرنسي جولين مالاند، المعروف باسم سيث الذي يعرف بتماهي أعماله مع الطبيعة، فقد رسم جدارية لطفل وطفلة ينظران عبر النافذة وكأنهما يترقبان المستقبل وما سيحمله لهما من فرص، ورسمت الفنانة الروسية فولتشكوفا يوليا أناتوليفنا العَبْرة التي تنقل الركاب بين ضفتي خور دبي، كي تبرز وسيلة التنقل التي تميزت بها دبي في الماضي، وما لها من أثر عميق في الذاكرة الثقافية للمدينة، وما ترمز له من بعد اقتصادي وثقافي وإنساني، وقد درست فولتشكوفا الرسم في سن مبكرة، وتنتشر أعمالها الفنية على جدران وأبنية سانت بطرسبرغ ما أكسبها شهرة كبيرة في روسيا. أما الفنانون الإماراتيون الذين شاركوا في المشروع فهم أشواق عبد الله، وميسون آل صالح، وحمدان بطي الشامسي، وقد استلهموا جميعاً ثقافة أجواء المدينة الإماراتية التقليدية، وتراث المجتمع، وهم جميعاً من الشباب الإماراتيين، الذين انطلقوا مؤخراً يقدمون تجاربهم في هذا المجال، في مسعى حثيث لتوسيعه وترسيخ حضوره في المشهد الفني المحلي. وتبدو التجارب الفنية الإماراتية في الغرافيتي ذات طابع خاص تنبع من دوافع ذاتية لدى مجموعات من الشباب وجدوا في هذا الفن وسيلة جيدة للتعبير عن المشاعر الذاتية، والتواصل المباشر مع المتفرج أثناء عملية الإنجاز مما يعطي للتجربة تلقائيتها، وسعوا في الأغلب بتشجيع من المؤسسات الرسمية إلى تسخير فنهم لأغراض جمالية في مناسبات وطنية واحتفالية، مثل ما هو حال مشاركتهم في مهرجان خورفكان، ومن المتوقع أن تنتج هذه التجارب أعمالاً متطورة، وأن تنضج بسرعة .
مشاركة :