«زوربا اليوناني» لنيكوس كازنتزاكيس ... رقصة مقدونية

  • 2/7/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تظل شخصية «زوربا اليوناني» التي كتبها ؛ من بين أكثر الشخصيات الروائية، إثارة للدهشة. وتظل الرواية التي حملت الاسم نفسه وصدرت للمرة الأولى في عام 1946 من بين أكثر الأعمال الأدبية التي تُقرأ على نطاق واسع بلغات عدة. وأخيراً صدرت من «زوربا اليوناني» طبعة عربية جديدة عن دار «باسكلياني» في تونس، بترجمة أسامة إسبر. بين فيلم هوليوودي تألق فيه أنتوني كوين، وشخصية روائية رسم معالمها كازنتزاكيس ترتسم الصورة الذهنية لهذه الشخصية المدهشة والمفارقة. تحكي الرواية قصة مثقف؛ اسمه «باسيل»؛ غارق في الكتب، لا يجيد شيئاً سوى القراءة، رسم للحياة صورة ذهنية افتراضية من خلال ما قرأه من كتب، يلتقي مصادفة برجل أميّ، يمتلك رصيداً كبيراً من التجارب الحياتية. يتعلم «باسيل» الكثير من «زوربا»؛ وخصوصاً عن الحياة وعن حبها وفن عيشها. رسم نيكوس كازنتزاكيس ملامح شخصية «زوربا» عبر لغة وصفية تأملية جعلتها تتحول إلى «لحم ودم»، كما يقول أسامة إسبر في مقدمة الترجمة. بدا «زوربا» محباً للحياة؛ يتسامى على الحزن؛ ويرقص على أنغام موسيقى حية وصاخبة، متكئاً على جرأته البدائية. المشكلات التي تبدو مستعصية على الحل، يحسمها هو كأنما بضربة سيف، ومن العسير أن يخطئ مثل هذا الرجل هدفه، لأن قدميه ثابتتان في الأرض تحت ثقل جسمه. إنه زوربا بكل صخب الحياة وقوتها، لا يدع للحزن مكاناً في قلبه، ولا للكراهية موضعاً في روحه. تقف شخصية زوربا ابن الطبيعة بكل ذكائها وتوقدها في مقابل شخصية باسيل أو»الرئيس» المثقف الذي قضى وقتاً كبيراً بين الكتب، لكنه لم يختبر الحياة بقسوتها وعطائها، وهو يمتلك المكانة الاجتماعية والمال، لكنه يراقب الحياة ولا يحياها. من يقرأ الرواية يكتشف أن نيكوس كازانتزاكيس ينحاز إلى شخصية زوربا وينتصر لها، ألم يجعلها العتبة الأهم لقراءة هذا العالم ببكارته ودهشته؟ ألم يجعل اسمه عنواناً للرواية؟ إن زوربا الساخر الأبدي من الكتب يواجه صديقه باسيل:» كتبك تلك أبصق عليها، فليس كل ما هو موجود، موجوداً في كتبك». لقد جمعت الرواية بين هذين الشخصين المتناقضين فكرياً وعقائدياً وسلوكياً بعلاقة وشيجة لم يكن قوامها المصلحة أو تبادل المنفعة، بل هي علاقة تحكمها التكاملية فكل منهما رأى في الآخر مكملاً لنفسه، وكأن كلاً منهما وجد في الآخر نصفه المفقود أو نصفه الذي يبحث عنه. يصف المترجم شخصية زوربا في أوقات الحزن: «يتحول إلى مغنٍ مقدوني جوال وهو يحمل في يده آلة السانتوري، وعبر أوتارها يجعلك تحب الحزن القاسي، وتنعم بالألم العظيم، وحين يثب في الهواء برقصته المشهورة، على رغم أعوامه الكثيرة تتمنى مثل باسيل الرئيس أن تقفز مثله، وربما وقفت مثله ورقصت، يرقص زوربا حتى في الفجائع، فهل تقدر على مجاراته؟ يرقص أمام جثة ابنه، فهل ترقص أنت لموت عصفور أو فراشة؟ يرقص في الحزن لكي لا يميته الحزن والأسى، يرقص لأن اللغة لا تقول شيئاً، فهل تجرب أن تكون في وضع مماثل؟». مجنون هو زروبا، وحكيم في الوقت نفسه: «كلا؛ لا أؤمن بشيء بالمرة. كم مرة يجب أن أكرر هذا. فأنا لا أؤمن بأي شيء أو بأي شخص. بل بزوربا وحده. ليس لأن زوربا أحسن من غيره. ولكن لأن زوربا هو الوحيد الذي يقع تحت سلطتي؛ والوحيد الذي أعرفه. أما الباقون فكلهم أشباح». يطرح النص أسئلة فلسفية عميقة، عن ماهية الروح وعلاقتها بغيرها مما يشكل هذا الوجود. ما الذي يجري في الأعالي؟ من صنع كل هذه الأشياء؟ ولماذا يموت الناس؟ هو مثل زراديشت. إنما الرواية فتتحرك داخل نظام فلسفي، على رغم أن زوربا كان شغوفاً بالحياة والنساء والنبيذ، فحتماً هو لم يتوقف عن عيش الحياة؛ ليطرح أسئلة الوجود، ربما طرحها القارئ وهو يقارن الحوارات التي كانت تدور بين النقيضين، وكأن الكاتب أراد أن يبسط أسئلة الفلسفة، ويقرب عملية التفلسف من عموم القراء، وكأن الرواية سعت - وفق المترجم - إلى أن «تقهر المتعالي الفلسفي، والمتعالي اللاهوتي، وأي متعال آخر، تصبح فيه النفس البشرية سفينة نوح، لإنقاذ الجوهر، لا القشرة، القشرة تحملها المياه، أما الجوهر، فإنه يتمسك بتأملاته، بإرثه، بتراثه، بأسئلته، ضاحكاً أو باكياً يعيد الجوهر ترتيب كونه الخاص، ليس مهماً اللون، وليست مهمة الديانة، وليس مهماً، الجنس وليس مهماً السن، المهم هي الروح». يرحل زوربا في الحياة مثل عظماء التاريخ البشري، لا من أجل المال، بل من أجل الإنسان، يأخذ آلته الموسيقية ويعيد تمجيد القمر العالي في سمائه، لأنه يدرك بفطرته أن العالم لا يحتاج إلى عمال فقراء يكدون في المناجم، ولا لرأسماليين أثرياء يستغلون هؤلاء الفقراء، إنما هو في حاجة إلى روح وثَّابة وقلب ذكي يعرف كيف يقطر الحياة، فلا تأخذه من إنسانيته. يمنح الحياة ألقاً بهذه الروح الشغوفة بالمتعة وتهدر مثل سيل. يتألق مثل نجم، أو ربما - وفق تعبير المترجم -مثل «كويكب صغير معلق من أشفاره في سجن الفضاء، غامض خصب ملتبس، قادر على اختزال الأبدية في كلمة، وقادر على زرع حب الحياة وعدم الخوف من الموت». إن نيكوس كازنتزاكيس يعلن أنه التقى زوربا، فلفت نظره بتلقائيته وعفويته، فقرر أن يخلده بهذا العمل الذي يضج بكثير من الدهشة. قرر أن يصنع منه شخصية ورمزاً، لأن الكاتب ببساطة رأى أنه ليس وجهاً وقسمات، بل يصلح لأن يصير علامة، بما أنه فاضَ على كل حد، وهرب من سجن الرواية ليصبح رمزاً للمهمشين، للذين يتعلمون من الحياة، فيلسوف يستقي حكمته من خبرات المعيش ومعترك الوجود الإنساني. صارت رقصته رؤية للكون، تسخر من المعارف المتطاولة على الدنيا، المتعالية على الأرض. زوربا يعلمنا أن نثور على كل قيود الروح، ونكسر كل قالب، ونخرج على كل نمطي. ينتصر نيكوس كازنتزاكيس في هذا النص للثقافة الروحانية الصوفية التي تعلو وتسمو حد العرفانية، وتهبط وتدنو لتغرق في لذائذ الجسد والمتعة حد المادية، إنها الضدية في أبهى تجليها، وفي الحالتين نتعاطف مع شخوص الرواية، وننصت لهسيس أرواحهم من دون إدانة لطرف ضد الآخر. إن الكاتب يعلي من المعرفة الحدسية العرفــانــيــة على حساب المعرفة المادية العقلانية.

مشاركة :