المندائيون في إيران من الإبادة إلى تغييب الهوية قد يكون الصابئة المندائيون أصغر مكوّن في إيران اليوم. محنتهم مع الدولة الدينية أنّهم ليسوا مسلمين وليسوا عربا وديانتهم غير معترف بها. هذا التحقيق محاولة لرفع الستار عن وقائع يومية تجسد مكوّنا صغيرا آخر يتآكل ويختفي من ديموغرافيا المنطقة. العربملهم الملائكة [نُشرفي2017/02/08، العدد: 10537، ص(12)] شعب الماء بون (ألمانيا) – في مناسبات تاريخية غير معلومة، ولأسباب مختلفة، حدثت هجرات مندائية كبرى من أرض الرافدين، الوطن الأصلي للصابئة المندائيين. وعبر الكثير منهم إلى المناطق المتاخمة لحدود العراق في إيران، وهي ممالك عيلام وميسان؛ وقد باتت بعد الهجرة دولا مندائية مستقلة عن الممالك الإيرانية المتعاقبة، والحديث هنا يجري عن تاريخ سحيق القدم. وهكذا استقروا هناك وعمّروا مدنهم. المندائيون هم شعب الماء الذي عاش على ضفاف أهوار السهل الرسوبي الجنوبي من العراق، حيث عايشوا السومريين الذين بنوا حضارتهم على ضفاف الأهوار أيضا. كتابهم كنزاربه ينص على أن “النبي آدم خلقنا على ضفاف الفرات في الديوانية في منطقة كان اسمها سيلان”. أشهر حرفهم كانت النجارة، وهي مهنة متوارثة في صناعة الزوارق المحلية التي تسمى “مشاحيف” ونقلوها معهم من وادي الرافدين إلى أراضي إيران. بسبب التصحر وجفاف مياه الأهوار، اتجه الصابئة إلى صياغة الذهب والفضة والنقش عليها والخراطة، فاحترفوها وباتت مصدر ثرائهم، حتى أنّ أغلب صاغة الذهب والفضة في العراق وإيران خلال مقطع تاريخي طويل أمسوا من الصابئة حصرا. لغتهم هي أول لغة بشرية حسب عقيدتهم، ويقول الناشط المندائي الإيراني ومدرّس اللغة المندائية الملقب أبودانيال، وهو باحث وكاتب له ثلاثة مؤلفات، في حديث لـ”العرب”، إنه استطاع “من خلال بحث استمر 10 سنوات إثبات أصالة هذه اللغة باعتبارها اللغة الأم التي سبقت الآرامية والعربية”. وتتألف اللغة المندائية من 23 حرفا، وتكتب من اليمين إلى اليسار. تبدأ أبجديتها بحرف ألف، وتختم بحرف ألف، لأن لكلِّ نهاية بداية. وتدور الأمور في حلقة دائرية، وهكذا فإن الألف المندائية تُرسم بشكل دائرة، وكل العالم والأفلاك والكواكب والحياة تدور في 360 درجة، وحين يموت الإنسان تبدأ روحه في حياة ثانية في مكان آخر. وأكد الناشط المندائي أنّ هذا المكوّن الصغير لا يملك حق تسمية أبنائه وفق ديانته ولغته في إيران، وشرح ذلك بالقول “لا يحق للمندائيين تسمية أبنائهم بأسماء مندائية، وهذا تقليد نشأ بعد قيام الجمهورية الإسلامية وبات قانونا. أسماء المندائيين هي على سبيل المثال هيبن، أنّس، رخمات، مرياي، صابا، سلمى، شوم، وغيرها من الأسماء التي يمنع استخدامها”. بسبب التصحر وجفاف مياه الأهوار، اتجه الصابئة إلى صياغة الذهب والفضة والنقش عليها والخراطة، فاحترفوها وباتت مصدر ثرائهم، حتى أنّ أغلب صاغة الذهب والفضة في العراق وإيران خلال مقطع تاريخي طويل أمسوا من الصابئة حصرا وأضاف “الولادة تتم في المستشفى الذي يزود الوالد بشهادة ميلاد موجهة إلى دائرة تسجيل الولادات، وهناك يسألونه أن يأتيهم بشهادة تأييد من الكنيسة إذا كان مسيحيا أو من الكنيس إذا كان يهوديا أو من المعبد إذا كان زرادشتيا، وهذه الشهادات تتيح له أن يختار اسما من قوائم الأسماء المخصصة للطوائف. أما الصابئة المندائيون فلا يمنح لهم هذا الحق”. ويتناقص عدد هذا المكون القديم العريق باطراد في كل من العراق وإيران، حيث هاجر أغلبهم إلى أوروبا وأستراليا وكندا. ويشير أبودانيال إلى أن عدد المندائيين في إيران، حسب إحصائية أجريت قبل 22 سنة، وكان عضوا في مجلس شؤون مندائيي إيران حينها، بلغ 25 ألف مندائي. بعد هجوم الولايات المتحدة على نظام صدام حسين في العراق وما أعقبه من اضطرابات، أصاب المندائيين خوف شديد من قيام إدارة الرئيس جورج دبليو بوش الابن بهجوم على إيران، يعقبه وضع يشبه الوضع العراقي فهاجروا بكثافة من إيران. الباقون في إيران اليوم لا يزيد عددهم عن خمسة آلاف. أغلبهم يسكن مدن الأحواز والخفاجية والمحمرة والحميدية وشادكان جنوب إيران وسربندر وكرج وشيراز. وتنتشر معابد الصابئة، وهي علنية وتسمى “مندي”، في الناصرية بمدينة الأحواز، والآخر في الحميدية والثالث في قرية مزرعة تبعد عن الأحواز 80 كيلومترا. دوافع الهجرة لم ينص دستور الجمهورية الإسلامية على وجود المندائيين، بل اقتصر على الزرادشتيين والمسيحيين واليهود ويسمون “كليمي”، وسبب هذا الأمر مشكلات كثيرة للمندائيين، الذين يعانون من إنكار تام لهويتهم، وهم ممنوعون من العمل في دوائر الدولة ومؤسساتها الرسمية. وتخلو البطاقة الشخصية الإيرانية من حقل الديانة، لكن، وطبقا لما ذهب إليه الناشط المندائي، فإنّ تقاليد الدولة العميقة هي من تتحكم في المشهد، ويقول أبودانيال “هناك استمارة يجب أن يملأها كل من يتقدم إلى وظيفة، وبعد أن يقدم الاستمارة، تقوم السلطات الأمنية بالتحقق في ما جاء فيها، وفي منطقة سكناه، وإذا كانت معلوماته كاذبة فسيكون عرضة لمشكلة كبيرة”. ويبدو أن هذه الاستمارة موجودة في كل مكان، حسب الناشط المندائي، فحين يزور أي مريض مستشفى، لا بد أن يملأ الاستمارة المستشفى الذي فيه حقل الديانة، ويحدث مثل هذا لمن يروم دخول جامعة، حيث توجد في الاستمارة حقول تنص على “مسلم، سني، شيعي، زرادشتي، مسيحي، كليمي (بمعنى يهودي)، ولا توجد تسمية مندائي”. ويكشف أبودانيال عن تطور جرى في عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، حيث وصلته شكوى المندائيين من تغييبهم في الأوراق الرسمية، فظهرت بناء على إيعازه استمارات أخرى كتبت فيها بعد تسمية الكليمي (اليهودي)، تسمية “سائر الديانات”، دون إشارة صريحة إلى المندائيين. ويواجه الطلبة المندائيون مشكلة من نوع خاص، وفق الناشط المندائي، الذي يبين أنه يتحتم على التلاميذ والطلبة أن يدرسوا مادة الدين الإجبارية. ومطلوب من المندائيين حصرا أن يؤدّوا في الامتحان مادة الدين، وفي المرحلة النهائية لا بد لهم أن يحققوا معدلات عالية في المادة لأنها ضمن المواد المقررة لدخول الطالب إلى الجامعة. مكوّن صغير آخر يتآكل ويختفي أتباع النبي يحيى رئيس الطائفة المندائية في كل العالم هو الكنزبره ستار جبار حلو الزهيري، ومقره في العراق ويعيش الآن في أستراليا، وممثلاه في إيران، هما الكنزبره طالب الدراجي، والكنزبره نجاح الكحيلي. واعتبر العالم المسيحي المندائيين أتباع القديس يوحنا المعمدان، وهم يسمون أنفسهم في العراق وإيران أتباع النبي يحيى. قيل إنهم نزحوا من الناصرة والجليل ويهوذا والسامرة إلى السهل الرسوبي في حدود بابل وسومر جنوب العراق “ميزوبوتاميا” القديم، هربا من اضطهاد الرومان بعد مقتل يوحنا المعمدان. وارتبطت عبادتهم بالتعميد بالماء وأسموه “الصباغة”، وهذا ما يفسر تمسكهم بالسكن على ضفاف الأنهار. وفي إيران، يتاح لهم أن يرتدوا أزياءهم الخاصة البيضاء، كما يسمح لكهنتهم بارتداء الزي الخاص بهم مع إطلاق لحاهم وشعورهم، وهذا تقليد سومري وبابلي قديم لا علاقة له بالدين، لكن الباحث المندائي عضيد جواد الخميسي يؤكد في بحث نشره على صحيفة الحوار المتمدن “أنّ القوانين الرسمية الإيرانية تفرض على الكهنة المندائيين عدم ارتداء الزي الأبيض الديني الخاص بهم والتجول في المرافق العامة، لذا فالكهنة يرتدون زيهم الخاص مع العباءات والعمائم الإسلامية الشيعية ليبدو الكاهن المندائي شخصية مألوفة في الثقافة الإسلامية الإيرانية”. يذكر الباحث والناشط المندائي أبودانيال تفاصيل حملات الإبادة التي طالت المندائيين منذ القرن الخامس عشر، حيث شنت الحملة الأولى في عهد آل مشعشع، وهم من شيوخ قبائل عربية حكمت المنطقة، وقد كانوا مستقلين عن الدولة الصفوية وسلطتهم نافذة على الأحواز والبصرة والمحمرة (خرم شهر اليوم) وصولا إلى العمارة، كما هو مدوّن في التاريخ المندائي. وقد ذهب ضحية تلك الحملة 30 ألف مندائي، هذا غير السبايا والرقيق، وجرت الحملة في إمارة سكران، في مدينة البسيتين وهي تسمى اليوم كوت سكران. والمجزرة الثانية في شوستر وديزفول، وورد ذكرها في مكاتبات أمير كبير رئيس وزراء ناصرالدين شاه القاجاري، وبلغ عدد ضحاياها 20 ألف مندائي ومقبرتهم مازالت موجودة في شوستر، ويسميها أهالي المنطقة قبور الصابئة. وهناك جسر على نهر الكارون وقرب هذا المكان، فيه دكة تعرف باسم “صابي كشون” وتعني بالعربية “موقع قتل الصابئة”، حيث كانوا يضربون رقابهم بالسيوف على هذه الدكة ويلقون بجثثهم في الكارون. وظل هذا الجسر قائما على نهر الكارون حتى ابتداء الدورة الثانية للرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي أمر شخصيا بإزالته عام 2010، معتبرا أنه سيشكل في المستقبل دليل إدانة ضد دولة إيران. وكان هذا الجسر مسجلا على لائحة الميراث الثقافي الإيراني التي تحمي الآثار عادة، وقد تدارك مجلس المحافظة على الميراث الثقافي الإيراني هذا الأمر، فاستطاع إنقاذ جزء منه من الهدم، وهذا الجزء الباقي هو دكة “صابي كشون” تحديدا لحسن الحظ والكلام بمجمله نقلا عن أبي دانيال. وجرت المجزرة الثالثة في مدينة الخليفية قبل نحو 120 سنة في العهد القاجاري. وحدثت المجزرة الرابعة في مطلع الحكم البهلوي، في عهد الشيخ خزعل أمير المحمرة الشهير، في مدينة شادكان، وقد تآمر شيوخ بني كعب على المندائيين وقتلوا بعضهم وسلبوا أموالهم. الحل حسب الخميني يقول الباحث المندائي عضيد جواد الخميسي “من المحاولات اليائسة التي قام بها أتباع الطائفة المندائية أنّ وفدا يتألف من رجال الدين وبعض الشخصيات المندائية تمكّن من مقابلة الإمام الخميني في مدينة قم لعرض مشكلاتهم، ومنها موقفهم القانوني من الدستور الإسلامي الإيراني. استمع الإمام لوجهة نظرهم، ووعدهم بأن يجد لهم الحل بعد أيام معدودة. وبعد انقضاء المدة المحددة، عاد الوفد مجددا إلى قم لمعرفة الرد، وإذا بالصدمة الكبيرة غير المتوقعة، حيث كان رد الأمام لهم عند أحد مساعديه بالحرف الواحد ‘ليعتنق هؤلاء المندائيون الإسلام. وبذلك تنتهي كل مشاكلهم، الحل بسيط جدا”. كاتب عراقي :: اقرأ أيضاً العراق دولة الميليشيات.. الحرس القومي، الجيش الشعبي، الحشد الشعبي قلق من تمدد المواجهة الأميركية الإيرانية إلى لبنان الحرب ضد الإرهاب في سيناء تقرب القاهرة من حماس هل يحصل المولود في تركيا على الجنسية
مشاركة :