استمع عبد الحسين شعبان أعادني خبر اختطاف عشرات المواطنين العراقيين في وضح النهار في شمال العاصمة العراقية بغداد، إلى ظاهرة الاختفاء القسري التي ظلّت مستفحلة في العديد من المجتمعات، بل إن نحو 63 بلداً في العالم يعاني منها، ولأن الاختطاف الذي يسمّى بلغة القانون الدولي والأمم المتّحدة الاختفاء القسري، ظاهرة شائعة في العراق في الماضي والحاضر، فإن اعتراف رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي: ... بإقدام قوة مجهولة على اعتقال 30 شخصاً من منطقة التاجي والطارمية، ولم يُعرف حتى الآن مرجعية هذه القوة، ولا مصير المعتقلين ولا الجهة التي اقتيدوا إليها، يعتبر مسألة جديدة. في السابق كانت الدولة وحدها هي من يحتكر العنف، وإذا ما حدث عمل من هذا النوع، فإن إصبع الاتّهام سرعان ما توجّه إليها، إذْ مَنْ سواها قادر على القيام باختطاف مفكّر أو صاحب رأي أو ناشطة سياسية وحقوقية أو رجل دين وإخفائه إلى ما لا نهاية، الأمر الذي سيدخل معها في نزاع حول اختصاصاتها، وهو أمر غير مسموح به على الإطلاق. ولكن منذ الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وحلّ الجيش والعديد من قوى الأمن، فإن جماعات عديدة من داخل الدولة وبجوارها أو من خارجها، ناهيك عن الاختراقات الأجنبية، من يمارس هذا الدور، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي العادة فإن الدولة تنكر أي صلة لها بالخطف الاختفاء القسري، تُبعد عن نفسها وعن أجهزتها الشبهة، بل تحاول إلصاقها بالأجنبي أو بأعدائها، كما حصل في حال الاختفاء القسري للفقيه القانوني د. صفاء الحافظ وللخبير والباحث الاقتصادي د. صباح الدرّة، وهما شخصيتان وطنيتان عراقيتان وعالميتان، وقد اختطفا في شباط (فبراير) عام 1980، ولا يزال مصيرهما مجهولاً. ومنذ ذلك التاريخ لم أترك مناسبة إلاّ وذكّرتُ بهما في المحافل الحقوقية الدولية والعربية، ليس للعلاقة الشخصية فحسب، بل للدلالات الخاصة، سواء ما يتعلّق بالجهات الخاطفة أو المتواطئة أو المدسوسة التي أسهمت في أن تقع الشخصيتان بيد الخاطفين، لا سيّما أنهما اعتقلا قبل ذلك وتعرّضا للتحقيق والاستجواب لأكثر من مرّة، وحتى بعد تغيير النظام وانكشاف الكثير من الأمور، فقد ظلّت قضيتهما خارج دائرة الضوء. وبالطبع فإن موضوع الاختفاء القسري يشمل أسماءً أخرى ذات شهرة واسعة مثل المهدي بن بركة الذي اختطف في باريس عام 1965، وموسى الصدر الذي اختفى في ليبيا عام 1978 ومنصور الكيخيا الذي ضاع كل أثر له في القاهرة عام 1993، وشبلي العيسمي الذي اختفى قسرياً في لبنان عام 2011، إضافة إلى شخصيات عراقية مثل: عايدة ياسين ودارا توفيق وأسعد الشبيبي ومحمد باقر الصدر وأخته بنت الهدى وعزيز السيد جاسم وشاكر الدجيلي وآخرون. وكنت أتوقّع أن يجلى مصير العراقيين المختفين قسرياً بعد عام 2003، ولكن للأسف لم تتم متابعة مثل هذه الملفّات، في حين أن المطالبة بكشف مصير منصور الكيخيا آتت أُكلها، في نهاية عام 2012، وتقول الرواية إنه نُقل سرّاً من القاهرة إلى طرابلس الغرب، بعد اختفائه قسرياً في (10 ديسمبر/ كانون الأول عام 1993) خلال حضورنا لمؤتمر المنظمة العربية لحقوق الإنسان، وبقي سجيناً في أحد المساكن بعيداً عن الأنظار. وتوفي في عام 1997، لكنه لم يدفن، وإنما استبقي في ثلاجة لحين الإطاحة بالقذافي عام 2011، وكان الزعيم الليبي قد استمع إلى نصيحة إحدى العرّافات، بأن دفن شخصية مهمة قد يؤدي إلى وفاته، فأبقى عليه لمدّة نحو 14 عاماً، حتى تم اكتشافه، وأرسل الحمض النووي إلى معهد خاص في سراييفو لتحليله وفحصه، والتأكّد من أنه يعود للكيخيا، وخصوصاً بعد مقارنته بالحمض النووي لابنه رشيد وأخيه محمود. وبخصوص الحافظ والدرّة، وبغض النظر عن الملابسات الغامضة التي اكتنفت عملية اختفائهما والاتهامات العديدة التي صاحبتها في غمرة صراعات سياسية وحزبية، فقد آن الأوان للكشف عن مصيرهما ومتابعة بعض الخيوط بخصوص اختفائهما، إذْ لا ينبغي أن نجعل النسيان الذي يراهن عليه المتورطون يطغى على القضية، ولا بدّ لها وجميع قضايا الاختفاء القسري أن تظل في دائرة الضوء لكشف المتسبّبين والمتواطئين فيها أمام الرأي العام ولمنع تكرار حوادث الاختفاء، بهدف ردع القائمين عليها، باعتبارها جرائم لا تسقط بالتقادم. والأمر يشمل قضايا المختفين قسرياً في الجزائر والمغرب ولبنان والعراق (وكردستان العراق أيضاً) وأفغانستان وليبيا وإيران وسوريا وتشيلي والأرجنتين، وغيرها. وعلى الجميع إدراك أن مثل هذه الجرائم يمكن أن تطال الجميع، طالما تمكّن الخاطفون والمتواطئون معهم الإفلات من العقاب، فما بالك وجرائم الاختطاف في العراق شملت مجموعات ثقافية تم استهدافها مثل الصابئة المندائيين والمسيحيين والإيزيديين الذين سُبيت نساؤهم، في محاولة لفرض نوع من التأسلم الداعشي وكل من يختلف مع الفكر التكفيري الإرهابي. ولعلّ الوطن بكامله تعرّض إلى الاختطاف، وتحوّل العراق بمشيئة بول بريمر الحاكم المدني الأمريكي للعراق، من شعب موحّد إلى مكوّنات متناحرة، حسبما ورد في الدستور ثماني مرات، وحلّت الطائفية والإثنية محلّ المواطنة الجامعة، في محاولة لإعادة الجميع إلى أصولهم الدينية أو المذهبية أو العرقية ولو بالإكراه. drshaban21@hotmail.com
مشاركة :