عندما بزغ الفجر تمكن (محمد) من رؤية الشاطئ والطريق القذر الذي يؤدي إلى الغابة، وكان قارب الصيد الذي أقله إلى منطقة معزولة من الشاطئ، في شمال تنزانيا، قد اختفى منذ أمد بعيد. والآن بعد أن صارت الشمس في كبد السماء، أمل هذا الرجل البالغ عمره 28 عاماً، ويعمل مدرساً، أن تبدأ المرحلة التالية من رحلته. انقضى النهار، وكان (محمد) و12 رجلاً صومالياً انضموا إليه على ذلك القارب، ينشدون الظل تحت الأشجار المنخفضة والشائكة. وكانت لديهم كمية قليلة من ماء الشرب، لكنهم اشتركوا في قليل من البسكويت، اشتروه من كينيا قبل رحيلهم. وبحلول فترة المساء بات من الواضح أنهم لم يتحركوا كثيراً من مكانهم. وجاء الليل مرة ثانية، وأخذوا يسمعون زمجرة وعواء الحيوانات المفترسة. وقال (محمد) متذكراً «شعرنا بالوحدة على نحو فظيع»، وبزغ يوم جديد، وتبعته ليلة أخرى، وعندها سمعوا صراخاً، فقد وصل دليلهم، الأمر الذي يعني أن رحلتهم يمكن أن تستمر. وعلى الرغم من أنهم شعروا بالوحدة، إلا أن هؤلاء الرجال كانوا جزءاً من حالة كبيرة، فاللاجئون الأفارقة الهاربون إلى أوروبا حظوا بتغطية إعلامية كبيرة في الأشهر الأخيرة، لكنّ عدداً أكبر من هؤلاء كان ينشد الأمن والنجاح في مكان آخر، في قارته ذاتها. وقال الناشط مارك غبافو، من «ندوة الأفارقة في الشتات»، وهي منظمة غير حكومية مقرها في جنوب إفريقيا «الهجرة إلى الدول الأوروبية حظيت بتغطية إعلامية كبيرة، لكن في بقية أنحاء إفريقيا هناك حركة كبيرة أيضاً». حكايات الرحلات حول مائدة من الحساء والخبز، يقوم الجميع بسرد حكايات رحلاتهم، فقد اضطر معظم المهاجرين إلى الاعتماد على المهربين والموظفين الفاسدين، للوصول إلى الوجهات التي يريدونها. وكانت العصابات الإجرامية تفرض أسعار خدماتها استناداً إلى حاجة الزبون. ويستطيع الصومالي الموجود في كينيا، الذي يحمل جواز سفر وتأشيرة دخول، أن يصل إلى جنوب إفريقيا عن طريق الحافلة بصورة مريحة وآمنة نسبياً، لقاء 2000 دولار في مدة تقل عن أسبوع، لكن إذا كان المهاجر لا يحمل جواز سفر ولا تأشيرة، فإن التكاليف تكون أعلى من ذلك، وكذلك المخاطر، كما اكتشف (محمد) بنفسه. • %20 الزيادة في تعداد اللاجئين ضمن حدود القارة الافريقية في الأعوام الأخيرة. ومن الصعب تحديد عدد اللاجئين، لكن ليس هناك من يجادل في أن عدد الأشخاص الذين يتنقلون في إفريقيا يتجاوز بكثير عدد اللاجئين إلى أوروبا. ويقول الخبراء إن فكرة «الرحيل» من القارة غير صحيحة. وهناك دولتان فقط من أصل الدول الـ10 الرئيسة المصدر لللاجئين، لجأ سكانها إلى أوروبا في عام 2015، هما إرتيريا ونيجيريا. ومن ضمن 17 مليون إفريقي رحلوا عن بلادهم، 3% منهم فقط يقيمون في أوروبا، في حين أن الأغلبية العظمى منهم تقيم في إفريقيا نفسها. ويواجه اللاجئون الأفارقة داخل القارة الصعوبات ذاتها التي يتعرض لها من يغادرون القارة برمتها. ويسافر كثيرون منهم بصورة سرية، عبر شبكة كثيفة من الطرق المتقاطعة في ما بينها وعمليات تهريب تحمل المهاجرين شرقاً إلى السعودية واليمن، في حين أن الطريق الجنوبي، البالغ طوله 4000 ميل، ينتقل من القرن الإفريقي إلى أغنى دول القارة، وهي جنوب إفريقيا. وترك (محمد) وطنه على ضواحي مقديشو، لأن الميليشيات الإسلامية من «تنظيم الشباب» هددت بقتله لأنه رفض إرسال طلابه للتدريب العسكري. وكانت الوجهة الأولى التي وصل إليها كينيا، لكنه قرر الانتقال بعد عام من وجوده هناك، حيث تمكن من جمع مبلغ زهيد إثر عمله في تعليم أطفال اللاجئين تعاليم دينية. وفكر في الذهاب إلى أوروبا، لكن الوصول إلى العالم الغربي - من دون أن يكون لك معارف، أو أن تملك مبالغ مالية كبيرة، أو من دون أن تتقن اللغة الإنجليزية - يعتبر أمراً مستحيلاً، ولذلك فإنه قرر المضي جنوباً. وشهدت السنوات الأخيرة ارتفاعاً في تعداد المهاجرين ضمن قارة إفريقيا، وأدت الصراعات في بوروندي، وليبيا، والنيجر، ونيجيريا، إضافة إلى الأزمات المزمنة في جمهورية إفريقيا الوسطى، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، وجنوب السودان، إلى زيادة شاملة تصل إلى 20% في عدد اللاجئين داخل إفريقيا. واجتذبت جنوب إفريقيا المهاجرين من مناطق عدة في إفريقيا، لأكثر من قرن من الزمن، ولاتزال هذه الدولة، ذات الاستقرار والثراء النسبي، تجذب الكثيرين حتى الآن. ويعتبر عدد المهاجرين في جنوب إفريقيا محط جدل، بيد أنه ربما يراوح بين 1.5 و3.2 ملايين شخص، ثلثاهم قادمون من أماكن أخرى في القارة الإفريقية، وبصورة خاصة الدول المجاورة، وإن كان هناك من يأتي أيضاً من إريتريا والمغرب. وثمة أحياء في العاصمة جوهانسبورغ، مثل مايفير، يقطنها سكان قادمون من شرق إفريقيا بصورة كاملة، حيث يتجمعون، بغض النظر عن جنسياتهم، في المساجد أو الكنائس. وركب (محمد) قارباً للصيد حمله إلى شاطئ مهجور في شمال تنزانيا، بميناء مومباسا في كينيا، وعندما وصل دليلهم في نهاية المطاف، انتقل (محمد) ورفاقه المهاجرون بالحافلة لمسافة 800 ميل باتجاه موزمبيق. وعندها نزلوا من الحافلة ودخلوا إلى الغابات وبدأوا المسير. وقال (محمد) «مشينا لمدة سبعة أيام. وأحياناً كان لدينا بعض الطعام، وأحياناً أخرى لم نملك شيئاً. ونمنا على الأرض، وكنا نشعر بالخوف الشديد من الحيوانات طيلة الرحلة، أو من أن نموت على الطريق، أو من الشرطة». وبالطبع فإن هذا الخوف مبرر، إذ إن الكثير من المهاجرين ينتهي بهم المطاف إلى الاعتقال والزج في السجون لأشهر عدة، أو ربما لسنوات، في دول كانوا يريدون عبورها للوصول إلى جنوب إفريقيا. واعتقل المئات من الصوماليين في السجون الكينية. واعتقل عشرات الأجانب في زيمبابوي. وهناك آخرون لم يتمكنوا من البقاء أحياء. وقال مهاجر إثيوبي قام بهذه الرحلة إلى جنوب إفريقيا العام الماضي «سمعنا عن حالات غرق في الأنهار، وعن أشخاص ماتوا نتيجة لدغ الأفاعي أو التعرض لهجوم حيوانات مفترسة، أو ربما يموتون عطشاً أو جوعاً، وبالنسبة للشبان فإن الرحلة تكون أفضل، لكن في بعض الأحيان يكون هناك أطفال وكبار سن». وتم تسجيل حالات قليلة من الوفيات المذكورة سابقاً، كما أن الحوادث الأكثر فظاعة هي التي كان الإعلام يتحدث عنها، وفي عام 2012 توفي 47 شخصاً من شرق إفريقيا، عندما انقلب بهم القارب في بحيرة مالاوي. وفي يونيو الماضي، تم اكتشاف جثث 19 إثيوبياً اختنقوا بشاحنة حاويات في جمهورية الكونغو الديمقراطية. وفي موزمبيق التقى (محمد) ومجموعته مع دليل جديد قادهم إلى مالاوي، ومرة أخرى تعين عليهم عبور الحدود ليلاً. وقال (محمد) «اهترأ حذائي تماماً، وكنت أشعر بألم شديد، وسقط أحد رفاقي وكُسرت ذراعه والتوى كاحله، وتعين علينا حمله، وفي الليل كان البرد قارساً» وخلال المشي تمكن اللاجئون من العثور على ملجأ في معسكر تديره منظمة غير حكومية، حيث مكثوا هناك لمدة أسبوعين، كانوا يقومون بجمع الحطب وبيعه من أجل الحصول على الطعام.
مشاركة :