أصبح التعامل مع الخلل والفساد بكل تجلياته معتادا، وربما جزءا من البلاء الذي يجب أن نتأقلم عليه، وحتى محاولات العمل على تجاوزه فردية، مع أن جذوره تضرب في عمق مؤسسات كثيرة، والتخلص منه يحتاج إلى رغبة كبيرة وإرادة عامة ورؤية شاملة، وتغيير يضمن اقتلاع كافة الأمراض، وليس تسكينها عبر جرعة مؤقتة تمنح فرصة لالتقاط الأنفاس السياسية. وبالتالي من الطبيعي أن نفشل في القضاء على مشكلات التعليم والصحة والإهمال والبيروقراطية وغيرها، وسوف يستمر الفشل ما لم ينتبه السادة المسئولون إلى أن هناك أخطاء متراكمة بالجملة، لا تتطلب فقط تصحيح الدفة في كل إدارة أو هيئة أو مؤسسة، لكنها بحاجة إلى تجديد أعمدة السفينة لبتر التشوهات التي يستند عليها البعض، قبل أن نفقد ما تبقى لدينا من بصيص أمل ويقظة وقانون. انتباه السادة المواطنين والمسئولين للأزمات المتزاحمة، يفرض التدقيق في أسباب الفشل الذي يلازمنا منذ سنوات، وجعلنا نناقش اليوم مشكلات وأزمات الأمس، مع فارق جوهري في الحجم والتضخم والانتشار، بحكم التغيرات السياسية والتطورات الاجتماعية والتحولات الاقتصادية، ولعل الأسئلة المركزية التي تتردد كثيرا في أذهاننا، لماذا الفشل؟ وما هو العلاج؟ وكيف سيكون المصير؟ التفسير عندي أن هناك شخصيات كبيرة، كانت مسئولة في الدولة أو لا تزال، تتحكم في مفاصل جهات ومؤسسات وهيئات كثيرة توفر الحماية اللازمة لكل صاحب مصلحة، فغالبية المدارس الخاصة، وفي مقدمتها ما يسمى بالدولية، مملوكة لأشخاص لديهم ما يكفي من العلاقات والقوة والنفوذ، أو على الأقل شركاء فيها، يقطعون الطريق على المحاسبة قبل وقوعها، ويمنعون المنغصات الإدارية، ويحجبون الأخطاء والكوارث، ويوفرون الهدوء والأمان ليتصرف القائمون عليها بحرية وبلا التزام بأي ضوابط وأعراف وقوانين. لك أن تتخيل أن مديرة إحدى المدارس الدولية في حي الشيخ زايد بأكتوبر، أعلنت زيادة كبيرة في المصروفات العام المقبل، وأنذرت بكل بجاحة الرافضين من أولياء الأمور بعدم دخول أبنائهم المدرسة وتركهم في الشارع ليضيع مستقبلهم. كما أن لجنة إدارية من وزارة التعليم كانت في طريقها لمدرسة أخرى، وإذا برئيس اللجنة يتلقى اتصالا هاتفيا من مدير المدرسة، الذي علم من داخل وزارة التعليم أن لجنة سرية في طريقها إليه، يسأله متى سيصل ليكون في شرف استقباله؟ والقصص في هذا المجال كثيرة ومثيرة وكاشفة لفهم جانب معتبر من العوار الذي أصاب التعليم. الحال المؤسف في المدارس، لا يختلف كثيرا عن التدهور المتفشي في غالبية المؤسسات، فقد انتبه مبكرا معظم أصحاب المصالح إلى فكرة توفير الغطاء أو الملاذ الآمن الذي يوفر لهم الحماية، ويبعد عنهم شبح القانون، بل ومعاقبة من تسول لهم أنفسهم إشهار سيفه. ولعل ما حدث عقب مباراة مصر والكاميرون يرفع الستار عن هذه المأساة، ويفرض على السادة بأطيافهم المختلفة، الالتفات إلى أن هناك خللا كبيرا يتجاوز حكاية الزبال والعالم، يضرب المجتمع في مقتل. الشاب الذي لقي حتفه على أيدي بلطجية في كافيه مصر الجديدة، كل جريرته أنه اعترض على الطريقة السيئة التي تعامل بها أصحاب المقهى مع رواده، فكان مصيره مطواه تغرس في صدره بأيدي باردة، لأن صاحبها ومحرضيه امتلكوا جرأة يحسدون عليها، ليس في الصلف والعمل بلا ترخيص رسمي والتحايل على القانون، لكن بالثقة التي جعلتهم يعتقدون أن العقاب لن يقترب منهم. الواضح أن الجريمة التي هزت المجتمع المصري لن تكون الأخيرة، لأن قطاعا كبيرا ممن يملكون أنواعا مختلفة من التجارة، تعليم وصحة ومقاهي ومطاعم ومصانع وحتى التاكسي والميكروباص، قبل أن يقيموا مشروعاتهم الكبيرة والصغيرة، بحثوا عن أشخاص يضمنوا لهم حماية تصرفاتهم السلبية وخروجهم على القانون، والدفاع عنهم عند الحاجة. من هذه الزاوية يمكن فهم أسباب الفشل الذي يلاحق محاولات وأد الفساد، لأن بعض ممن يقومون على محاربته لديهم حسابات وامتدادات قوية مع شبكة مصالح، أو تقع عليهم ضغوط تغل يد كل من تسول له نفسه الاقتراب، وربما النجاح الذي حققته الرقابة الإدارية مؤخرا يمكن إرجاع جزء معتبر منه إلى أنها تحللت من الأغلال والقيود، ولا تزال عصية على الاختراق، الذي يكبل جهات كثيرة، عندها الرغبة ذاتها، لكنها تفتقد القدرة والسيطرة. المشكلة أن تغول الفساد وعدم اجتثاثه، سيكون معطلا لفرص التنمية، لأن المحاولات الدءوبة التي يقوم بها الرئيس السيسي من أجل الإصلاح سوف تصطدم به، بسبب وضع العصي في عجلات المشروعات التي تدور في أماكن مختلفة، وقد يصاب بعضها في مقتل، خاصة أن الناس تضع ثقتها في السيد الرئيس، وتحمله المسئولية كاملة، فإذا انفجرت ماسورة مياه في الجيزة، أو اختفت السلع وزادت أسعارها، أو ارتفعت مصروفات المدارس، وجهت أصابع الاتهام لسياسات الرئيس والتشكيك في تصوراته ومشروعاته، وبالتالي عليه فرض أسلوب شامل لتجفيف منابع الفساد في جميع القطاعات. ليس الغرض من كلامي تبرئة أو الدفاع عن أحد، لكن الهدف ضرورة الالتفات إلى خطورة ما يجري في مجالات مختلفة، لأن استمرار التداعيات السلبية، سوف يدمر الكثير من الطموحات والإنجازات، ويجعلنا ندور في حلقة مفرغة، ولن نشعر بأي تقدم حقيقي على جميع المستويات، لذلك على السادة المسئولين الانتباه.. كمان وكمان، قبل أن يفوت الأوان. محمد أبو الفضل
مشاركة :