يتعين على مارادونا، قبل كل شيء، الجلوس طويلا في خلوته واستحضار كل الأحداث التي ميزت حياته، حيث وجب عليه الاتعاظ من كل ما سبق قبل أن يبدأ مهمة الوعظ والإرشاد وإعطاء الدروس. العربمراد البرهومي [نُشرفي2017/02/12، العدد: 10541، ص(23)] لا أدري لماذا استذكرت وتذكرت تلك الرواية الرائعة للكاتب العالمي نجيب محفوظ "الشيطان يعظ" التي تحولت فيما بعد إلى فيلم سينمائي لاقى رواجا كبيرا خلال حقبة الثمانينات من القرن الماضي، عندما أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم عن تكليف النجم الأسطوري و”الأيقونة” العالمية الخالدة الأرجنيتي دييغو أرماندو مارادونا بمهمة في “الفيفا”؟ ليس في الأمر علاقة كبيرة بين أحداث تلك الرواية الخالدة وبين هذا التكليف والتشريف الذي ناله صاحب “الحظوة” مارادونا، لكن ربما هو اقتباس قد يجسد ولو نسبيا مسيرة هذا اللاعب، وما حف بها من أحداث و”زلات” خطرة كادت تودي بنجم النجوم إلى حافة الهاوية في بعض مراحل حياته. الخبر أعلنه الفيفا وأكده مارادونا الذي كتب قائلا “أخيرا سأستطيع تحقيق حلمي الأبدي بالعمل من أجل كرة قدم نظيفة وشفافة واتحاد دولي بنفس الصفات مع أشخاص يحبون اللعبة بصدق.. شكرا لكل هؤلاء الذين يشجعونني لمواجهة هذا التحدي الجديد”. مهمة صاحب إنجاز مونديال 1986 تتمثل في المساهمة في نشر القيم النبيلة لكرة القدم وتنظيفها من الدنس والمشاكل والعيوب. مارادونا سيصبح أحد المدافعين عن المبادئ السامية للرياضة عامة وكرة القدم على وجه الخصوص، سيعمل على محاربة الفساد ويقف كجدار صدّ ضد كل ما من شأنه أن يعكّر صفو اللعبة ويهدد شفافيتها ونزاهتها. فهذا السفير الجديد للفيفا سيكون من هنا فصاعدا مدافعا شرسا عن نقاء الأجواء في عالم كروي يعرف دوما تجاوزات وانتهاكات وقضايا رشوة وفساد أضرت كثيرا في السابق بمصداقية اللعبة، وضربت “في مقتل” الهيكل الرياضي الأكثر تأثيرا في العالم، ولعلّ الجميع يتذكر ما حصل لرئيس الفيفا السابق سيب بلاتر وعدد كبير من المسؤولين الكبار صلب هذا الهيكل. مارادونا قبل الانطلاق في التجربة الجديدة، بدأ مبكرا في هذه المهمة، ألم يتهم بلاتر علنا بكونه المتسبب الرئيسي في حالة الضياع التي هددت واقع الكرة في العالم؟ ألم يعارض السياسة السابقة في تسيير الفيفا؟ ألم يعلنها في أكثر من مناسبة أن الاتحاد الدولي تتحكم فيه “عصابات ومافيا”؟ ومع ذلك، ألم يكن من الأجدى أن يكون قبل كل شيء قدوة في كل شيء؟ فمارادونا الفنان والاستثنائي والظاهرة والعبقري عندما كان لاعبا، خرج من الباب الصغير في نهاية مسيرته في الملاعب، فما حصل له ذات مونديال وتحديدا سنة 1994 في الدورة التي أقيمت بالولايات المتحدة الأميركية ما يزال إلى اليوم عالقا في الأذهان، لقد أقصي مارادونا وأبعد عن المنافسات بسبب تعاطيه المنشطات. بالتوازي مع ذلك ألم يتورط بعدها في قضايا تتعلق باستهلاك مواد مخدرة كادت تكلفه حياته قبل أن يخضع لبرنامج علاجي صارم؟ ألم يتورط حسب ادعاءات وسائل إعلام إيطالية في علاقات مشبوهة مع المافيا؟ صورة ناصعة، بل شديدة البياض والتألق والإبداع في مسيرة هذا اللاعب، قابلتها على الضفة المواجهة مشاكل عديدة وتفاصيل مشبوهة قد تجعل من مارادونا في فترة ما في حياته، ذلك “الشيطان” الطائش الذي لا يدرك ولا يعي الأمر الذي يجب القيام به، وما يجب تجنبه. ربما تخلّص "القصير الماكر" من كلّ صفاته السلبية السابقة، وبات كهلا شارف على اكتساب حكمة الشيوخ وهو في سن السادسة والخمسين، لكن رغم ذلك يمكن القول إن المرء قد لا يقدر في كل الأحوال والظروف أن ينجح في كل المهام. فمسيرة هذا النجم التاريخي تبدو متقلبة، فيها الكثير من النجاح والتألق عندما كان لاعبا فذا سواء مع المنتخب الأرجنتيني أو نادي نابولي الإيطالي على وجه الخصوص، وفيها أيضا إخفاقات وفشل في مراحل أخرى من حياته المليئة بالأحداث والتجارب، سواء الشخصية منها أو الرياضية. دعونا نستذكر ماذا حصل مع مارادونا عندما تقمّص دور المدرب فقاد منتخب بلاده في دورة سنة 2010 في جنوب أفريقيا، كانت المحصلة آنذاك ضعيفة فخيّب الآمال قبل أن يكتفي بهذا القدر من التجربة المتواضعة، درّب أيضا نادي الوصل الإماراتي دون أن يحقق أيّ إنجاز يذكر، فاكتشف أنه لا يصلح للتدريب. في المقابل، حقق بعض النجاحات الأخرى في تجارب مختلفة كليا عن تجربة اللعب أو التدريب، حيث نشّط برنامجا تلفزيونيا أسماه بـ“الليلة رقم عشرة”، أظهر بعض البراعة في إدارة البرنامج، لكن بعد ذلك انتهى كل شيء بعد أن توقف البرنامج الشهير. بقي مارادونا في الواجهة على امتداد السنوات الأخيرة، حيث حرص دوما على متابعة بعض المباريات سواء للمنتخب الأرجنتيني أو فرقه السابقة مثل نابولي وبوكا جونيور، كان نجما لا يشق له غبار، أو ذلك “الضوء الساطع” الذي يستهوي الجميع، وبالتوازي مع ذلك لم يتردد للحظة في التعبير عن مواقفه وأرائه بخصوص عدة قضايا ومواضيع، وخاصة فيما يتعلق بقضايا الفساد التي ضربت “الفيفا” في مقتل زمن “حكم” بلاتر. أما اليوم فقد تغير كل شيء، أعلن مساندته لأنفانتينو الرئيس الحالي للاتحاد الدولي، خاصة بعد قرار رفع عدد المنتخبات المشاركة في كأس العالم، ليكون له ما أراد ويتم تعيينه كسفير دائم في هذا الهيكل. ومع ذلك، يتعين على مارادونا، قبل كل شيء، الجلوس طويلا في خلوته واستحضار كل الأحداث التي ميزت حياته، حيث وجب عليه الاتعاظ من كل ما سبق قبل أن يبدأ مهمة الوعظ والإرشاد وإعطاء الدروس. كاتب صحافي تونسي مراد البرهومي :: مقالات أخرى لـ مراد البرهومي الشيطان يعظ , 2017/02/12 جليس الأطفال والقيصر , 2017/02/05 هوية إيطالية بوصاية صينية , 2017/01/29 ليفا مدهش.. ليفا ليس أسطورة بعد , 2017/01/22 أهداف الدقيقة التسعين والمقصلة , 2017/01/15 أرشيف الكاتب
مشاركة :