عادة ما يطوي الغياب، بدرجات متفاوتة، الموتى والشهداء، سواء كانوا بسطاء ام عظماء، لكن شيئاً ما في ساجي درويش، الطالب في كلية الإعلام في جامعة بيرزيت، الذي سقط أخيراً برصاص الجيش الإسرائيلي، يجعله دائم الحضور: زملاؤه في الكلية انتخبوه، بعد استشهاده، رئيساً لنادي الصحافة في الجامعة ... وأستاذه يصر على الاحتفاظ بمقعده تحتله صورته، وفي كل محاضرة يُذكر اسمه في قائمة الحضور ... وحصانه الذي دأب على مرافقته في الطبيعة الجميلة لقريته «بتين» قرب رام لله حزين عليه، وإن كان على طريقة الخيول ... وشقيقته التي تعيش بعيداً تكتب فيه نثراً يتناقله الناس كما تناقلوا رثاء الخنساء أخيها. لا تفارق الابتسامة وجه درويش في حياته وفي غيابه، فأهله وزملاؤه وأهل قريته لا يتذكرونه الا مبتسماً، وصوره التي تنتشر على جدران القرية والجامعة تظهر ابتسامة ساحرة لشاب في العشرين من عمره يبدو مليئاً بالحياة والأحلام، فيأسى كل من يراه على رحيله. وعلى غير عادة الناس في تشييع الشهداء في فلسطين حيث يحملونهم الى بيوتهم ويسجّونهم فيها لإلقاء نظرة الوداع الأخيرة عليهم، حمل طلاب بيرزيت جثمان درويش الى الحرم الجامعي، وساروا به في الأماكن الأثيرة لديه بين الكليات، قبل ان يحملوه الى بيته. احتشد آلاف الطلاب خلف النعش، فيما أطل درويش عليهم، من صوره، بابتسامته الأخاذة التي بدت كأنها تضيء الفضاء. ومن هناك، من القرية، عاد الطلاب يرددون بحزن وألم ما قالته والدته: «خلوني (دعوني) أحضنه، يمكن (ربما) يعود الى الحياة في حضني». حاول اصدقاء درويش ان يشركوا حصانه في جنازته لأنهم يعرفون كم كانا متعلقين ببعضهما بعضاً، لكن الحصان رفض، وقاوم بشدة. فهموا انه يرفض الاعتراف برحيله. وبعد ايام، قطع الحصان لجامه وانطلق على غير هدى في الحقول، فيما قال كبار السن انه يبحث عن رفيقه. كتبت شقيقته ليالي التي تعيش في اميركا، ترثيه، فقالت: «انتظرتك تأتيني مبتسماً لتكذب ابتسامتك كل ما قالوه، لكنك لم تأتِ بعد ... سأكتب الآن، وإذا ما جئتني حلماً، سأمزّق كل هذا الهراء وأحضنك طويلاً». ضاقت ليالي باللغة التي رأتها عاجزة عن التعبير عن حزنها، فكتبت: «كافرةٌ هي اللغة، لا تعرف كيف تقول شيئاً صغيراً جداً مما في القلب!». حملت كتابات ليالي لشقيقها الشهيد صاحب الابتسامة العذبة، أسئلة وجودية حادة: «فكيف يكون للموت، لهذا الكائن البشع، كل هذا الذوق الرفيع في اختيار ضيوفه؟». صُدم الكثيريون برحيل درويش الذي يحمل الرقم 12 من بين طلاب جامعة بيرزيت الذين سقطوا شهداء، وكانت الصدمة أكبر عندما علموا كيف قتل بدم بارد: في ذلك المساء، رشق شادي، مع اثنين من رفاقه، بالحجارة سيارة للمستوطنين كانت تمر بمحاذاة قريته ... لاحقهم الجنود، وأعدوا لهم كميناً، وعندما شاهدوهم، قرروا قتل أحدهم، فاختاروا درويش، ربما لأنه أجملهم، فأطلقوا النار عليه من مسافة قصيرة. وفي المستشفى، اكتشف الأطباء عياريْن ناريين من النوع المتفجر المحرم دولياً في رأسه. رحل درويش، لكن ما خلّفه وراءه من ذكريات جميلة بقيت تملأ بيت عائلته بالحياة، فذاكرة والده صايل (53 سنة) زاخرة بومضات ساحرة من صوره: «صورته وهو يفيق من نومه في الثالثة فجراً ليقرأ عندما يكون لديه امتحان ... صورته وهو يلعب كرة القدم ... وصورته فوق ظهر حصانه يجوبان السهوب ... كان حلمه أن يخوض سباقات الخيل». وكل من عرف ساجي درويش عن قرب كان حزنه مضاعفاً على رحيله. أستاذ الإعلام في جامعة بيرزيت صالح مشارقة التقاه في الجامعة ظهراً، وفي المساء، وقعت عيناه على اسمه في خبر عاجل عن سقوط شهيد وصل الى الجريدة التي يعمل فيها محرراً ليلياً. وقال: «حملت نفسي الى المستشفى، وهناك تأكدت ان ساجي الطالب هو ساجي الشهيد». عاد مشارقة الى الجامعة، وأحضر صورة ساجي درويش، ووضعها على مقعده، وقال لتلاميذه بأن ساجي سيواصل فصله الدراسي من دون غياب. وفي كل محاضرة، يذكر اسمه في قائمة الحضور. شعر زملاؤه بحزن جارف على رحيله، وأصيب عدد منهم بانهيار. كتبت زميلته ماري عابودي: «باستشهاد ساجي، تحوّل كل شيء الى لا شيء، كل ما هو مهم أصبح دون الصفر، لم تعد للأشياء لذتها المعهودة ... كانت عندي احلام كبيرة ... كلها تبخّر، صعدت إلى السماء مع روحه». وأضافت: «حتى يوم أمس، كانت لدي احلام كثيرة، أن أتخرج من الجامعة، وأن أدرس الماجستير، وأصبح صحافية وشاعرة ... لكن بعد استشهاد ساجي، صار عندي حلم واحد، أن أكون مثله شهيدة» خاطب مشارقة الطلاب الغارقين في الحزن، قائلاً: «لا تحزنوا ولا تنكسروا لرحيل ساجي، رحيل الشهداء يحرّضنا على الحياة وليس الموت، يجب أن نحيا كي نحقّق أحلامهم». غزةفلسطينعباسالاستيطان
مشاركة :