حملة الانضباط تحتاج ... انضباطاً

  • 2/17/2017
  • 00:00
  • 2
  • 0
  • 0
news-picture

تدفع رياح الشتاء المختلطة بـ «هباب» السيارات اللافتة التي كانت زرقاء قبل سنوات ليست بعيدة للانتحار من أعلى «كوبري 6 أكتوبر». لحسن الحظ تستقر اللافتة في بقعة صغيرة خالية من التجمّعات البشرية الهائلة المنتظرة فرج الله المتمثّل في باص طال غيابه أو ميكروباص عزّ ركوبه لفرط ازدحامه. هبوط اللافتة المدوّي لم يلفت إنتباه الغالبية، وكأن تهاوي اللوحات الحديد أمور قدرية. المواطن الوحيد الذي انتبه واندفع لالتقاط اللافتة هو صاحب الكشك «المخالف» الذي استولى على مدار السنوات الست الماضية على الرصيف كله وجانب من الشارع. علامات الفرحة بدت واضحة على وجهه وهو يثبّت اللافتة أعلى الأحجار الضخمة «المخالفة» المرصوفة أمام كشكه «المخالف» في الشارع حيث «مخالفة» إشغال طريق لتتحول إلى طاولة معتبرة بدلاً من سابقتها الكرتون، وعليها سخان ماء ضخم يغلي بعنف على وقع الكهرباء «المسروقة» من عمود الإنارة في الشارع. وتصل الدراما إلى ذروتها بينما يمسح صاحب الكشك اللافتة مزيلاً عنها أتربة السنين لتتضح عبارة «الانضباط سلوك حضاري». الجانب الحضاري في الشارع المصري يعاني أزمة شديدة على مدار السنوات القليلة الماضية، منها تدهور التعليم وتجريف التربية وتطويع الدين، ليقتصر على العبادات من دون الالتفات إلى المعاملات، مع توليفة منتقاة من تقلّص دور الأسرة في تنشئة الصغار وإعلاء البلطجة وإهدار القانون وإهانته. ومع تصاعد حدة نوعية جديدة من الحوادث خلال الأشهر القليلة الماضية من التعديات اللفظية والجسدية التي وصل بعضها إلى حدّ الإصابة والقتل، واحتلال الأرصفة والشوارع من قبل سكان وأصحاب محلات وأكشاك وباعة متجولين، إضافة إلى جنون مروري عارم حيث ضرب عرض الحائط بأبسط قواعد المرور وقوانينه، تفتّق ذهن وزارة الداخلية عن حملة لإعادة الانضباط إلى الشارع تحمل اسم «الانضباط أسلوب حياة» وتستمر أسبوعاً، وسارعت دار الإفتاء إلى مباركتها، حاضةً المواطنين على المشاركة. مشاركة طلاب المدرسة الإعدادية في مساعدة «مستر سامح» قبل أيام لرفع الحجرين الكبيرين المثبتين أمام بوابة المدرسة، حيث يُحجز الرصيف والشارع حولها لركن سيارات المعلمين والناظر، يجدها «مستر سامح» وزملاؤه تستحق الثناء وجديرة بتضرع إلى السماء لمباركة الأولاد وحمايتهم وكتابة التوفيق لمستقبلهم. وفي داخل المدرسة وفي اليوم الأول للدراسة بعد عطلة منتصف العام، خصص جانب من طابور الصباح إضافة إلى الحصة الأولى للحديث عن الانضباط والنظافة والعمل الجماعي من قبل التلامذة وأعضاء المنظومة التعليمية، وذلك لمساعدة رجال الشرطة ومساندتهم لإعادة الانضباط والسلوكيات إلى الشارع. وعلى الجانب الآخر من المدرسة، استهل عدد من ضباط الشرطة أسبوع «الانضباط أسلوب حياة» بمداهمات للمقاهي المخالفة، والتفتيش عن رخص القيادة، وتحذير الباعة الجوالين من فرض بضاعتهم على الرصيف، وكل ذلك على خلفية صوت بوق تحذير «سارينة» الرافعة التابعة لإدارة المرور والمنذرة بحمل «السيارات الواقفة في الممنوع»، ما دفع أصحابها إلى المسارعة بنقلها إلى أماكن يسمح فيها بإيقافها أو أنها بعيدة من أعين ضباط الانضباط. وبقيت سيارة وحيدة من دون لوحة أرقام وزجاجها أسود، ما أثار العجب وأجج اللغط. لكن تبدد كلاهما حين عرف الجميع أنها سيارة أحد ضباط الحملة. ومن حملة الانضباط في الشارع إلى الـ «ميني انضباط» في البيت، حيث يعود الصغار بعد يوم دراسي معبّأ بانضباط القائمين على أمر التعليم، عبر شارع معبق بانضباط القائمين على أمر النظام وتطبيق القانون، حيث «بابا» صاحب القانون الوضعي من مواعيد عودة وقيود ترفيه وشد أحزمة على البطون، انصياعاً لظروف إقتصادية مؤلمة، و «ماما» محتكرة التطبيق الفعلي من إجبار على تنظيم الغرفة وتقسيم عادل لقالب الشوكولا حيث لا بغي لأحد على نصيب الآخر وعقاب فوري لكل من يتفوهّ بكلمة غير لائقة. وعلى رغم هذا، فإن «بابا» مدخّن شره ومتفوّه بين حين وآخر بألفاظ يعاقب عليها القانون، و «ماما» تقود سيارتها عكس الاتجاه توفيراً لعناء الوصول إلى آخر الشارع حيث الدوران إلى الوراء. كما أن كليهما اتخذ من الرصيف مرآباً لإيقاف سيارته، ويسرفان في انتقاد حال الشارع المتسيّب والاعتراض على شيوع البلطجة، وتعميم المفسدة من أطفال وشباب يدخنون الشيشة وأشياء أخرى في المقاهي. الحملة التي أطلقتها وزارة الداخلية بالتعاون مع وزارات ومنظمات للمجتمع المدني، هدفها كما ورد في بيان الإطلاق «تحقيق الإنضباط في الشارع والتوعية المرورية والتزام أحكام المرور ولوائحه». لكن بمرور الكرام على واقع الشارع والمدرسة والبيت، فإن القائمين على أمر الانضباط في حاجة إلى انضباط. يوم الصغار الذي بدأ بحديث مستفيض عن قيمة احترام القانون في نفوس الصغار، واستعادة الوجه الحضاري للبلاد، وضبط الشارع المصري، تخلله مساعدة المعلّم على رفع الحجارة لزوم حجز مكان الانتظار، ومشاهدة الضباط يرفعون السيارات المخالفة، مع الإبقاء على سيارة الضابط المخالفة في المكان المخالف، ثم متابعة برنامج ديني تلفزيوني يتحدّث فيه الضيوف المشايخ عن قيمة الإنضباط في الدين ومعنى إحترام القانون في الشرع، على خلفية تقرير معضد للمعاني الإيمانية حيث مصلين يصلون على الرصيف وفي عرض الشارع. وانتهى بدرس في قواعد الإلتزام وقيود الاتزان السلوكي من «بابا» و «ماما». وأغلب الظن أن حديث الانضباط في أسبوع الانضباط دخل من الأذن اليمنى وخرج من اليسرى، من دون انتقاص أو اندثار، ولسان حال المجتمع «إذا كان القائمون على أمر الانضباط بالدف ضاربين، فشيمة الشارع الرقص».

مشاركة :