لقد تفرّد الإسلامُ بخصائصَ ميّزه الله عزّ وجلّ بها، ولا توجَد في أيِّ نظامٍ أو مذهبٍ أوْ دينٍ غيرِه. ومِن هذه الخصائص أنَّ الله تعالى جعل هذا الدِّينَ شاملا لكل ما يحتاجه الناس في أمور معاشِهم وأمورِ معادِهم، وجميعِ شئون الخَلْق الدنيوية والأخروية. فهو ليس دينا رُوحيًّا فقط؛ بل تضمّنتْ تشريعاتُه كلَّ ما يُنظِّمُ علاقة الإنسان بربّه، وعلاقتَه بنفسه، وعلاقته بالناس، وعلاقتَه بالكون. وهناك مَن يطعن في هذه الخَصِيصَةِ (الشمولية)، ويزعمُ أنّها اختراعٌ ابتدعتْه بعض الحركات الإسلامية المعاصرة ـ أو ما يُسمُّونها "جماعات الإسلام السياسيّ" ـ لأهدافٍ سياسية، أما حقيقة الإسلام ـ في نظرهم ـ فهي أنه دينٌ روحيٌّ مقصورٌ على ما يُنظِّم علاقة الإنسان بالله فقط .. لقد روّج العلمانيون ـ متابعين في هذا معلِّميهم من المستشرقين والمنصِّرين ومَن سَلَك مسلكهم ولَفّ لَفّهم ـ إلى أن الإسلام لا يملك سوى نظامٍ روحيٍّ مقصورٍ على تنظيم العلاقة بين الفرد وربه فقط ، فهو محصور في إطار القفص الصدري للإنسان، وإن تجاوزه فلا يزيد ــ في زعمهم ــ عن جدران المساجد وبيوت العبادة !! والحق أن من شمّ رائحة العلم ورائحة التجرّد معا، لَيَرْبَأ بنفسه عن الترويج لمثل هذا الباطل والزور؛ حيث إنّ خَصِيصَةَ الشموليةِ مِن طبيعة هذا الدِّينِ، كما أنزله ربُّ العالمين. إن الناظر في القرآن الكريم وسنة النبي ﷺ ــ وهما المصدران الرئيسان للتشريعات الإسلامية ــ لَيُدرك بما لا يدع مجالا للريب شمولية منهج الإسلام ونظمه لكافة شئون الخلق في معاشهم ومعادهم، وذلك من خلال النصوص التشريعية المتنوعة، التي ترسم للناس معالم الحياة الراشدة في الدارين. والمتأمل في آيات الذكر العزيز، وسنة خاتم المرسلين - ﷺ - ليدرك من خلال الآيات الصريحة والأحاديث الصحيحة ما يبرهن على هذه الحقيقة الناصعة، ويدلل بجلاء على تلك الخَصيصَة العظيمة ــ خَصيصة الشمولية ــ، ويدحض أباطيل العلمانيين وأضرابهم. إنّ أطول آية في القرآن العزيز لم تتحدث عن شأنٍ روحيٍّ كالصلاة، أو ذكر الله، أو الاستغفار، أو الخوف والرجاء ... ونحو هذا من الأمور الروحية المحضة؛ بل تحدثت مع الآية التي تليها والآيات التي تقدّمتها عن أمور تشريعية اقتصادية وقضائية هامة، حتى أَطلَق عليها علماؤُنا «آية الدَّيْن »، وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ* وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [سورة البقرة:282 ـ 283]. وغير خافٍ أن القرآن الكريم وسنة النبي عليه الصلاة والسلام قد تضمنا الحديث عن سائر الأمور المعاشية، وجوانب المعاملات المختلفة بين الناس، ووضعا قواعدها وأصولها، كالزواج، والطلاق، والميراث، والجوار، والأطعمة والأشربة، والقضاء، والحُكم، والشورى، والحدود، والمعاهدات، والحروب، والديات، والقصاص، والربا، والبيع، والشراء، والكون والبيئة، كل هذا جنبا إلى جنب مع الحديث عن الصلاة والطهارة والصيام والحج، وسائر الأمور التعبدية. وهذه بعض الأمثلة التفصيلية: يقول الله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [سورة البقرة: 275] . وقال ﷺ: «البيّعان بالخيار ما لم يتفرقا ، فإن صدقا وبيّــنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما مُحِقت بركة بيعهما» [رواه البخاري ومسلم مِن حديث حكيم بن حزام]. وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]. وقال ﷺ: «اجتنبوا السبع الموبقات». قيل: يا رسول الله ما هي؟ قال: «الشّرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولّي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» [رواه البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة]. وقال ﷺ: «الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبُرّ بالبُرّ، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مِثْلا بمِثْل، سواء بسواء، يدا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يدا بيد» (رواه مسلم ـ وهذا لفظه ـ وأحمد، من حديث عبادة بن الصامت). وقال تعالى: {فلا جناح عليهما أن يُصلِحا بينهما صُلحا والصلح خير} [سورة النساء: 128]. وقال ﷺ: «الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرّم حلالاً أو أحلّ حراماً» [رواه أبو داود ـ من حديث أبي هريرة ـ، والترمذي، وقال: حسن صحيح]. وقال سبحانه: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل} [ سورة النساء : 58]. وقال ﷺ: «أدِّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تَخُن مَن خانك » [رواه أبو داود والترمذي والدارمي. كلهم من حديث أبي هريرة]. وقد أكّد النبي ﷺ على حرمة الدماء والأموال والأعراض في حجة الوداع، وثبت هذا بروايات صحيحة، فقال: «ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» . وقال تعالى: {يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين} [سورة النساء: 11]. وقال ﷺ: «إن الله قد أعطى كل ذي حقٍّ حقَّه، فلا وصية لوارث» [أخرجه أبو داود، والترمذي والنسائي وابن ماجة والدارمي وأحمد, من رواية أبي أمامة وعمرو بن خارجة]. وقال ﷺ: «اُعطوا الأجير أجره، قبل أن يجِفّ عَرَقُه» [رواه ابن ماجه من حديث ابن عمر]. وقال تعالى: {إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما} [سورة النساء: 105]. وقال ﷺ: «يا عليّ، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقْضِ بينهما حتى تسمع مِن الآخَر، كما سمعتَ من الأوّل، فإنك إذا فعلتَ ذلك تبين لك القضاء» [رواه أبو داود والترمذي، وقال: حديث حسن، وأحمد ـ وهذا لفظه ـ] (6) وقال ﷺ: « مَن أدرك ماله بعينه عند رجل أو إنسان قد أفلس؛ فهو أحق به مِن غيره» [رواه البخاري ومسلم من رواية أبي هريرة]. وقال تعالى: {الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} [سورة البقرة: 229]. وقال سبحانه: {ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون} [سورة البقرة: 179]. وقال تعالى: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين} [سورة الممتحنة: 8]. وقال سبحانه: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} [سورة المائدة: 1]. إنّ الله الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [سورة البقرة: 183]؛ هو الذي قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [سورة البقرة: 178]، وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [سورة البقرة: 180]، أليست كلُّها تشريعات ربانية شاملة؟ وغير هذا مِن الأمثلة التي يطول ذكرها في هذا المقام. فهل بعد هذا الواقع البيّن في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ يماري العلمانيون وأضرابهم في مبدأ شمولية الإسلام ونظمه لجميع شئون الناس, ويتشدقون بأن الإسلام لا يعدو كونه شعائرَ وطقوساً رُوحية فقط ؟!. سيرة النبيّ ﷺ وخلفائه الراشدين تدحض الزعم بأن الإسلام دين روحي فقط: وإلى جانب ما أشرنا إليه من أمر النصوص التشريعية الوفيرة؛ ماذا يقولون فيما ثبت من ممارسات رسول الله ﷺ العملية، وكذا خلفائه الراشدين المهديين من بعده، تلك الممارسات التي تؤكِّد على تمتع الشريعة الإسلامية ونُظمِها المختلفة بخاصّية الشمولية. فلقد عقد الرسول ﷺ المعاهدات، وجمَع الزكاة، وسيّر الجيوش، وأرسل الرسل (السفراء)، وأقام الحدود، وقضى بين الناس، وغيرَ هذا من الشئون التي قام بها عليه الصلاة والسلام بوصفه نبيًّا يُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم من ربهم، وحاكماً سياسيًّا يقود الناس ويسوسهم بشرع الله، ويُصْلح الدنيا بالدين، حيث قال منزّل الدين ومشرِّعه: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدِّقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عمّا جاءك من الحق} [سورة المائدة: 48]. وقال سبحانه: {أفحكمَ الجاهلية يبغـون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون} [سورة المائدة : 50]. ومن نظر في تراثنا الإسلامي من فقه وتفسير وحديث وغيره؛ تبين له كيف تناول علماؤنا وفقهاؤنا كلَّ مشكلات الحياة، لا سيما ما كان في عصورهم، وقالوا فيها كلمتهم وفق شرع الله تعالى، حتى خلّفوا وراءهم مصنفات تشريعية هائلة مستوعِبة لقضايا الناس ومشكلاتهم المختلفة، متضمنة لمنظومة واسعة من المبادئ، والأسس والقواعد الكلية التي يُبنى عليها ويُسترشَد بها في التعرف على أنظمة الإسلام واستلهامها في كل عصر، الأمر الذي يدلُّ على أنه ما مِن واقعة إلا وللإسلام فيها رأْي، ولله فيها حُكم. والحمد لله رب العالمين. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مشاركة :