التبرع بالقول إن في انتخاب السنوار نزوع نحو "تشدد" لا يشبه "اعتدال" سلفه اسماعيل هنية فيه تعجّل لا يعي ثقل الضغوط التي تحاصر الحركة والتي لا ينفع للتخفيف منها التلويح بالشدة وأدواتها. والحقيقة أن اختيار قائد لحماس في غزة هو اختيار لقائدها الفعلي العام. فالحركة لا تملك في هذا العالم إلا القطاع، فيما تواجدها في الضفة الغربية أو في تجمعات الشتات الكبرى هو حضور فصائلي يتعايش مع بقية تيارات المشهد الفلسطيني العام. وبالتالي فإن من يقود الفعل الحمساوي الغزي يمتلك لبّ الفعل الذي لا بد لحماس الخارج أن تأخذه بعين الاعتبار، سواء كان رئيس الحركة خالد مشعل أو خلفه المحتمل اسماعيل هنية. يأتي انتخاب "العسكري" يحي السنوار بعد مرحلة ملتبسة عاشتها حركة حماس خلال السنوات التي تلت انتخابات القيادة السابقة عام 2012. فقد انتعشت الحركة الاسلامية الفلسطينية بما كان يعِد به "الربيع العربي" عام 2011 من سطوة لجماعة الإخوان المسلمين في العالم العربي. تعاظمت طموحات الحركة منذ طردها للسلطة الفلسطينية من غزة في مفصل الانقسام الدموي الشهير عام 2007. تغافلت حماس بعد ذلك عن مشروعها المحلي معوّلة أن يكون حضورها في غزة هو امتداد طبيعي لحضور الإخوان المسلمين في مصر، لاسيما في عهد رئاسة محمد مرسي، بما يصل الأصل بالفرع، ليمتد نحو الميادين التي تقدم داخلها الاخوان في تونس واليمن وسوريا وليبيا. وبغض النظر عن الظروف الميدانية التي أدت إلى نشوب حروب غزة وإسرائيل (2008 و2014)، إلا أن حماس في كرّها وفرّها كانت تمثل أجندة إقليمية تتجاوز حدود القطاع، ترتبط مباشرة باستراتيجية إيران في المنطقة لجهة الإطلالة على إسرائيل من الحدود الشمالية التي يشرف عليها حزب الله في لبنان، ومن تلك الجنوبية التي تمسك بها حركتي الجهاد الاسلامي وحماس المقربتين علنا من طهران. على أن حماس التي كانت تمثل ذروة التحالف بين الاخوان المسلمين وإيران في مراحل سابقة، دفعت ثمن قرار الجماعة بفك الارتباط مع طهران لتعارض أجندات الطرفين وتناقض طموحاتهما في ميادين المنطقة. وإذا ما راهنت حماس على نصر وسطوة الإخوان في موسم الربيع العربي، فإن تبدل المزاج الإقليمي ضد الإسلام السياسي في المنطقة، فاقم من أزمة الحركة وارتباك بوصلتها السياسية. ظل الكلام عن خلاف بين الجناح السياسي والعسكري أو بين قيادة غزة وقيادة الخارج متمحوراً حول طبيعة العلاقة مع طهران. راهنت قيادة خالد مشعل على التسليم بالحلف مع تركيا وقطر، فيما تمسكت قيادة الداخل، لاسيما قيادة "القسام"، بتواصل مع إيران وبمطالبة لإعادة الوصل وترميم ما تصدع في علاقات الطرفين. وإذا كانت مسألة موقف الحركة من المسألة السورية مفصلية في تحديد طبيعة العلاقة التي تشترطها طهران، فإن القيادة العسكرية للحركة أظهرت نزوعاً لتبني رؤى طهران في هذا المضمار من أجل "تدعيم التحالف المشترك ضد العدو المشترك. يأتي انتخاب السنوار في لحظة توتر في العلاقات الأميركية الإيرانية على نحو قد يشي بصدام يهدد ميادين النفوذ الإيراني في المنطقة. تحتاج طهران لتدعيم أوراقها الإقليمية، لا سيما داخل مناطق التماس مع إسرائيل: لبنان وغزة. ليس بالضرورة أن يغير انتخاب السنوار من طبيعة العلاقة (لاسيما اللوجيستية) التي ستربط الحركة بطهران، إلا تلك المتصلة بالودّ الاعلامي والسياسي المتبادل وفق شعارات معسكر الممانعة. وإذا ما أراد السنوار وأصحابه أن يكونوا جزءا من تركيبة حماس المتجاوزة لحدود غزة، فإن التوق المحلي لإعادة اللحمة مع إيران دونه شروط علاقة القيادة السياسية في الخارج مع عواصم المنطقة وقواعدها الجديدة. سيطيب لإسرائيل أن تردد لازمة مفيدة تتحدث عن قيادة حماس المتشددة على رأس التنظيم في غزة، ففي ذلك كثير من الماء الدافق نحو طواحينها. وسيطيب لنتنياهو وطاقمه الحاكم حمل الحدث بصفته استحقاقا خطيراً يهدد أمن إسرائيل. وسيسهل على تل أبيب تسويق إرهابية التهديدات التي تطل من غزة طالما أن القائد الجديد لحماس هناك، يحي السنوار، مدرج على لوائح الإرهاب في الولايات المتحدة. لكن حماس بقيادتها الحالية أو السابقة محكومة بضريبة الجغرافيا التي تتحكم بقرارها أيا كان رأس الحركة في غزة أو في الخارج. يصل السنوار إلى قيادة حماس في غزة فيما خلفياته الداعمة في مأزق كبير. فالبيئة الدولية مجمعة على محاربة الإرهاب الإسلامي الذي يمثله تنظيمي داعش والقاعدة، ما يسهل للإسرائيليين تسويق "إرهاب" إسلاميي غزة، فيما تلوّح منابر إدارة الرئيس دونالد ترامب في الولايات المتحدة عن عزم لإدراج جماعة الإخوان المسلمين على لوائح الإرهاب في العالم. بالمقابل يبدو موقف إيران مربك إثر انهيار الآمال التي عقدتها طهران على الاتفاق النووي وبروز سياسية عدائية من قبل واشنطن لا تهدد هذا الاتفاق فقط، بل تعِدُ بتقويض تمدد النفوذ الإيراني في المنطقة. وبين هذا وذاك تُظهر قطر تهدئة لحراكها الإقليمي ويبرز الموقف التركي (الذي كان ممكن للحركة التعويل عليه) بصفته متحوّلا براغماتيا قد لا تكون حماس ضمن أولوياته. يعرف السنوار إبن مخيم خان يونس في قطاع غزة ما لمصر من ثقل على مسار ومصير اليوميات الغزية. ويعرف الرجل بصفته القيادية داخل المكتب السياسي السابق مضامين التواصل بين حماس والقاهرة، وبالتالي هواجس مصر الأمنية وأولوياتها. وإذا ما كانت علاقات قيادة خالد مشعل للحركة، لا سيما في جانب تحالفاتها الإقليمية، مصدر إرباك لتفاهم ما مع القاهرة، فإن العاصمة المصرية قد تنظر بعين الرضا إلى قيادة السنوار بصفته ممسك بقرار غزة، وبالتالي أقدر على الالتزام بأي اتفاقات أمنية محتملة مع القاهرة. لا تمتلك حماس المحاصرة في غزة إلا سبيل الاتفاق مع مصر سواء كانت قيادة حماسة متشددة أو معتدلة. ولا تملك حماس إلا الاستنتاج أن موازين القوى لا تتيح لها الانخراط في حسابات طهران على حساب أمن واستقرار المنطقة التي تسيطر عليها في فلسطين. ولا يملك السنوار ورفاقه إلا قراءة شروط الراهن كما المشهدين الاقليمي والدولي، بما في ذلك دفن "حل الدولتين" الذي قد تباركه واشنطن، لاستنتاج الحاجة إلى صون الذات من أنواء تعصف بدول المنطقة وتهدد بجراحات كبرى داخلها. يكفي الاستماع إلى أهل غزة للخروج بخلاصات لا تقوى على احتياز حدود القطاع. يتم تقديم أمر القيادة المتشددة على رأس حماس في غزة وكأن تلك المعتدلة كانت تمنع "العسكر" من تحرير فلسطين. سنكتشف معاً أن "العسكر" هم أكثر العارفين بحدود القوة التي لطالما تجاهلها أهل السياسة والاعتدال لصالح حسابات يسيل لها لعاب العواصم البعيدة. لا نعرف عن السنوار إلا ما كتبته التقارير الإسرائيلية وما حفلت به فنتازيات الرجل الغامض. بيد أن أولاد الميدان هم أكثر الناس براغماتية وواقعية وأقلهم تعلقا بالطموحات المتخيلة. وقد تقلب غزة صفحة الانتماء إلى التنظيم الدولي من أجل الانخراط في استراتيجية "غزة أولا"، وربما، وأخيراً. ربما قد يجوز تأمل إعادة إثارة موضوع إقامة دولة في غزة تتمدد نحو سيناء، في ذلك ما يتطلب تموضع آخر لحماس. محمد قواص صحافي وكاتب سياسي
مشاركة :