نبيل اللو يؤكد أن تحريم الموسيقى والغناء لا علاقة له بالدين

  • 2/19/2017
  • 00:00
  • 22
  • 0
  • 0
news-picture

يرى د. نبيل اللو أستاذ علم اللسانيات التطبيقية والأستاذ الزائر بجامعة لوهافر الفرنسية أن الإرث الغنائي الموسيقي العربي يشكل حصيلة مجموع ثقافات الأقوام الذين شغلوا فضاءات جغرافية خاصة بهم في زمن من الأزمان، وأصبحت كلها مجتمعة في رقعة انتشر فيها الاسلام، واعتنقت الأقوام والأعراق والأمم الدين الجديد فأدخلت فيه دماء جديدة وألوانا جديدة وثقافات وموسيقات جديدة، بعضها يفوق بكثير ما كان للعرب منها رهافة وذوقا وصنعة ودقة وعمقا. هذا الخليط البشري من لحم ودم وروح انصهر مع الزمن في بوتقة الأمة العربية والإسلامية وإن كانت بعض الأقوام التي انصهرت فيها ليست عربية ولا إسلامية. ويضيف في كتابه "عود على العود.. الموسيقى العربية وموقع العود فيها" أن حرفة الغناء والضرب بالعود كانت في أيام الجاهلية مقصورة على النساء، وكن يسمين القيان، وبقيت الحال كذلك في العقد الأول من عصر الإسلام أي خلال فترة خلافتي أبي بكر وعمر، لكن الحال تغيرت في خلافة عثمان (644 ـ 656) إذ ظهر في عهده المغني المحترف صاحب الصنعة، ولعل الأمر مرده فتح بيزنطة وفارس، وهما مدينتان شاع فيهما الغناء وترسخ شأنه، وكان صنعة لها أهلها فيهما. وأول مغن محترف في الإسلام هو طويس وكان مخنثا، ويبدو أن طلائعهم كانوا كلهم من المخنثين إذ إنهم اختلفوا وتعلموا الصنعة منهن، وتشبهوا بهن وسلكوا مسلكهن. ويؤكد د. اللو أن اتصال العرب المباشر بالحضارتين البيزنطية والفارسية بعد الفتح الإسلامي كان له أثر كبير في ازدهار الموسيقى في بلادهم، ولم يكن الأمر أول عهده تثاقفا، بل كان تأثرا، إذ كان لدى الحضارتين من هذا الفن أكثر وأرفع مما ألفه العرب بدوهم وحضرهم، ويعود تقدم صنعة الموسيقى عند العرب فيما بعد لعوامل كان أولها ظهور طبقة من الموسيقيين المغنيين الذكور، بعد أن كانت الصنعة مقصورة على القينات، وثانيهما اهتمام علية القوم من تجار وحكام بإدخال هذا الفن دورهم، ورعايته ورعاية أهله، وثالثها النغم المليح غير المألوف عندهم، والذي جاءهم من أهل بيزنطة وفارس، وقد رقت مسامع العرب بعد أن أصبحوا سادة بلاد عريقة الحضارة، كما رق شعرهم وكان رأس فنونهم. ويلفت إلى أن الموسيقى والغناء ارتفع شأنهما زمن الأمويين حيث رعى سادة بني أمية وكبار التجار والسادة والأشراف صنعة الغناء والضرب على العود، ومن أشهر المغنين في خلافتهم جميلة ولبن مسجح وابن محرز وابن سريج والغريض ومعبد ومالك وابن عائشة ونافع بن طنبورة ونافع الخير والدلال نافذ وفند ونومة الضحى وبرد الفؤاد وبديع المليح وهبة الله ورحمة الله والهذلي، وعزة الميلاء وسلامة الزرقاء وسلامة القس وحبابة وخليدة وربيحة وبلبلة ولذة العيش، وغيرهم. ويشير اللو إلى أن أهم حدث في تأريخ الحقبة العباسية يتصل بالغناء والموسيقى هو تثبيت إسحق الموصلي النظرية الموسيقية العربية التي وضع أسسها يونس الكاتب أيام الأمويين وكاد النسيان يطويها. ويقول: "عرف تاريخ العرب الموسيقي تأسيس مدرستين اثنين لتعليم الغناء والضرب بالعود، المدرسة الأولى هي مدرسة إبراهيم الموصلي وقد أسسها في بغداد، والمدرسة االثانية هي مدرسة زرياب التي أسسها بالأندلس، وهذا يدل على أن بغداد والأندلس كانتا حاضرتين ازدهرت فيهما صنعة الغناء والضرب بالعود إلى حد كان ضروريا معه افتتاح مدرسة لتعليم هذه الصنعة. وهي المدرسة التي أسسها زرياب في الاندلس التي نشرت تقاليد الغناء العربي القديم باستقدامه مغنيات من المدينة المنورة، وظلت هذه المدرسة قائمة حتى سقوط خلافة الأمويين في الأندلس". ويقول د. اللو إن ازدهار التأليف الموسيقي النظري كان في القرن الثاني عشر الميلادي على يد ابن باجة ومحمد بن أحمد الراقوطي وظهر في مصر وبلاد الشام من المنظرين: أبو الصلت أمية، وأبو المجد بن أبي الحكم، وكمال الدين بن منعة، وعلم الدين قيصر، وفي العراق ابن النقاش وأبو الحكم الباهلي وصفي الدين عبدالمؤمن، بيد أن كثيرا منهم لا نعلم عن مؤلفاتهم شيئا، لكن كتاب الخوارزمي "مفاتيح العلوم" الذي ظهر في القرن العاشر مهم فيما يتضمنه من تعارف دقيقة، وينسحب الأمر على ابن سينا الذي اهتم اهتماما خاصا بنظرية إقليدس الموسيقية ويتضمن كتاباه "الشفاء" و"النجاة" معلومات قيمة جدا عن وضع الموسيقى عمليا في القرن الحادي عشر. واهتم ابن الهيثم أيضا بنظرية إقليدس وكتب شروحا على رسالتين في الموسيقى تنسبان إلى إقليدس. وتعقب اللو تاريخ آلة العود مشيرا إلى أن العرب ومن نشأ عنهم من الأقوام الذين أسسوا حضارات البابليين والآشوريين والفينيقيين وغيرهم ممن سكنوا بلاد الرافدين والهلال الخصيب وشرقي المتوسط كالكلدانيين والنبطيين واللخميين والغساسنة، معروف أنهم أقوام هاجروا من جنوب جزيرة العرب إلى الشمال، وقد عرفت أقوامهم كلها آلة العود، ودليلنا مسلة اكتشفت في قبور سبأ جنوب جزيرة العرب تعود إلى القرن الثالث الميلادي منقوشة عليها امرأة واقفة تحمل عودا بيسراها لا يختلف في شكله عن العود الذي كان معروفا وموصوفا في العصر الأموي. وإذا ما أردنا تحديد ظهور أشكال العود زمنيا حسب المناطق الجغرافية استنادا إلى ما توافر من شواهد آثارية، فإننا نستطيع جمع هذه الأشكال في عائلتين اثنتين: عائلة الآلة ذات الصندوق الصوتي الصغير والرقبة الطويلة (عائلة الطنبور)، وقد ظهرت في بلاد الرافدين ووادي النيل وبلادس فارس وحوض شرق البحر المتوسط والأنضول وكامل حوض المتوسط خلال الفترتين اليونانية والرومانية في مراحل زمنية تمتد من 2350 ق. م إلى القرن الثاني الميلادي. وعائلة الآلة ذات الصندوق الصوتي الكبير نسبيا والرقبة القصيرة (عائلة العود) وقد ظهرت في بلاد فارس وفي جنوب جزيرة العرب وفي الهند وفي الصين خلال فترة زمنية تمتد من القرن السادس قبل الميلاد حتى القرن الخامس الميلادي. ويلفت إلى أن العود آلة وترية عرفت فى الجاهلية باسمها الفارسى "البربط": صدر البط، ويرجع شكله الذى نعرفه اليوم إلى القرن الثانى الهجرى أو الثامن الميلادي، استنبطه أشهر ضارب على العود فى عهد الدولة العباسية "منصور زلزل" بأن قصّر زنده وأطال صندوقه وجعله بيضاويا كأنه نصف كمثرى. ويرى د. اللو أن فكرة تحريم الغناء والموسيقى فيها مبالغة وشطط وأن للجانب الاجتماعي فيها نصيبا أكبر من جانبها الديني الذي ظل في إطار سياقاته التي يجب أن ينظر إليها منها. ويقول "ليس في الكتاب الكريم ما يشير صراحة إلى تحريم الغناء والموسيقى. وقد ظهرت التحفظات عنهما في نهاية القرن الأول الهجري أي بعد وفاة الرسول بزمن طويل نسبيا. وأغلب الظن أن الذين تصدوا للغناء والموسيقى قد فعلوا ذلك من باب ما كان سائدا عند الشعوب السامية عموما من مناهضة ثالوث الخمر والمرأة والغناء، مفتاح الشر أو مفاتيحه، والوازع كان اجتماعيا أخلاقيا لا علاقة للدين به. ويؤكد أن التحريم الظاهر والباطن لم يؤثر في انتشار الغناء والموسيقى وولع الناس بهما وتهافتهم على مضمونهما وأهلهما، وأخيرا على امتهانهما خلف جدران المعاهد والجامعات واعتبارهما إلى جانب فنون أخرى كالتمثيل والرقص والتشكيل علامة اجتماعية فارقة ولم نسمع فيها تحريما صريحا قاطعا. ويتوسع اللو فى مسألة رد الاعتبار إلى آلة العود في الموسيقى العربية بعد أن انحسر دورها وقل ظهورها في الفرق الموسيقية الحديثة، ويتوقف البحث طويلا عند مدرسة عود بغداد التى أسسها محيي الدين حيدر فى النصف الأول من القرن العشرين، ومن تتلمذ على يديه من كبار عازفي العود، كما يبحث في مسألة إصلاح تأهيل الموسيقى الشرقي والمغنى العربي، ويستعرض محاولات تقعيد الموسيقى العربية منذ مؤتمر القاهرة الاول في العام 1932، والإشكاليات المزمنة التي مازالت تعانيها الموسيقى العربية. يبحث الكتاب أيضا في محاولات تطوير دوزان العود وفي أثرها في تطوير صناعته وتجويد العزف عليه منذ العود القروسي رباعي الأوتار، إلى العود سباعي الأوتار، مرورا بالخماسي والسداسي. فإذا كان الشعر ديوان العرب في الأدب، فإن العود ديوان موسيقاهم. وإذا كان العود على العود، فلأن البدء كان به. الكتاب الصادر عن سلسلة "عالم المعرفة" يضم أربعة عشرة فصلا تتناول تاريخ وتطور الغناء والموسيقى في العالم العربي والإسلامي قديما وحديثا، فيبدأ بمقدمة تاريخية في الموسيقى العربية، لتتوالى بعد ذلك فصوله: أصول الموسيقى العربية، الاسلام والغناء، الموسيقى والغناء عند العرب.. ثنائية أم تبعية؟ إحياء العود الشرقي، تاهيل الموسيقى الشرقي والمغني العربي المحترف، اصلاح تأهيل الموسيقي الشرقي، تأصيل فكرة الارتجال: تراث متجدد في التربية الموسيقية، محاولات تقعيد الموسيقى العربية، اشكاليات في الموسيقى العربية ، نظرة في تشكيل فرق الموسيقى العربية، تطور دوزان العود وتقسيم الديوان العربي وأبعاده الموسيقية، هذا بالاضافة إلى ملحق صور ومراجع عامة في دراسة آلة العود بوصفه صدى الصوت البشري ومرآة للموسيقى ويمهد للغناء بانتقالات مقامية. يذكر أن د. نبيل اللو يحمل درجة الدكتوراه في اللسانيات التطبيقية من جامعة ليون ـ فرنسا، شغل منصب عميد المعهد العالي للموسيقى من عام 2002 – 2004. ويشغل منصب مدير عام الهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون (دار الأوبرا السورية). محمد الحمامصي

مشاركة :