في العقود الأخيرة، ونتيجة لعمليات الإصلاح التربوي، التي كانت في أغلبها مرتجلة تردت وضعية المدرسة العمومية ما أدى إلى نزوع فئات واسعة إلى التعليم الخاص. العربعبدالجليل معالي [نُشرفي2017/02/21، العدد: 10550، ص(12)] المدرسة العمومية أداة ارتقاء اجتماعي كان الرهان على التعليم مفصلا أساسيا في مرحلة بناء دول الاستقلال العربية، وكان الرهان قائما بدوره على وعي بأن التعليم هو القاعدة التي ينطلق منها البناء. في هذا الصدد كان الإيمان بأهميته مشفوعا بترسانة قانونية، سارعت إلى إرساء قوانين تشجع وتحفز على التعليم (إجبارية التعليم ومجانيته في تونس) ومتوازيا مع قناعة مفادها أن الميزانيات المخصصة للتعليم أهم وأولى من الإنفاق على التسليح وبناء الجيوش. المدرسة العمومية كانت ترجمة لإيمان الدولة بواجبها في القضاء على الأمية، ومحاربة الجهل، ورفع الوعي، لأنه لا يمكن تحقيق التنمية بالاعتماد على شعب جاهل أو أمي، وهذا لا ينفي أيضا وجود مدارس “عمومية” أو تحت إشراف الدولة قبل لحظة الاستقلال، لكن تزامن هذا الرهان على التعليم مع حدوث الاستقلال أضفى على الأمر بعدا وطنيا، كان بمثابة تحد ترفعه دول الاستقلال ضد التخلف وضد المستعمر في آن. اضطلعت المدرسة العمومية بدورها في هذا المشغل الوطني، فزودت الدولة بما تحتاجه من كفاءات وموارد بشرية، وتواصلت الحلقة في مسار “إنتاجي” لا يتوقف، بأن استفادت المدرسة ذاتها من كفاءات تحولت إلى نخب سياسية قدمت رؤاها في الإصلاح والتطوير. ما يجدر التشديد عليه في هذا الإطار أن المدرسة العمومية، كانت تتوفر على ميزات كثيرة أهمها أنها كانت تحرص على تأكيد تكافؤ الفرص أمام الجميع، حيث تغيب في فصولها الفوارق الاجتماعية، ولذلك كانت تمثل فضاء للتفاعل الاجتماعي أسهم في تأخر الانتماءات التقليدية وتقدم الانتماءات الوطنية وأشكال التنظم الحديثة. المدرسة العمومية فقدت ألقها المتصل بكونها مصعدا اجتماعيا وإسهامها في تحقيق التنمية لصالح تعليم خاص يوفر جودة مشوبة بغايات ربحية تجارية كانت المدرسة العمومية تمثل بالنسبة إلى أبناء الطبقات الفقيرة مصعدا اجتماعيا لا غنى عنه. ففي غياب ديناميكية اقتصادية قوية وفي ظل هشاشة الاقتصاد، كانت الفرص ضعيفة للعمل وللارتقاء الاجتماعي، لذلك كان التعليم، الملاذ الوحيد أمام فئات واسعة للتحصيل العلمي ولنيل شهادة تخول لصاحبها العمل في الغالب في مؤسسات الدولة. كان مسار بناء المدارس والمعاهد والجامعات وتعميمها على أنحاء مختلفة من البلاد (البلاد هنا هي كل الأقطار العربية) عملية تتجاوز البعد التعليمي بل تنسحب نتائجها وآثارها وفوائدها على المعطى التنموي والاقتصادي، إذ أن بناء مدرسة أو معهد في قرية أو تجمع بشري صغير، يمثل أيضا منطلقا لدفع التنمية ونواة لتحسين نوعية الحياة، إذ غالبا ما تشفع بإنشاء مؤسسات وخدمات أخرى تستفيد من وجود المدرسة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. في العقود الأخيرة، ونتيجة لعمليات الإصلاح التربوي، التي كانت في أغلبها مرتجلة وفاقدة للمنطلق العلمي الدقيق، تردت وضعية المدرسة العمومية، من ناحية المضامين والمناهج والأدوار والخدمات والموارد البشرية، وأدى ذلك إلى تقلص الإيمان بها، ونزوع فئات واسعة إلى التعليم الخاص. على أن التوجه للتعليم الخاص لم يكن ناتجا فقط عن الخلل الذي أصاب المدرسة العمومية، بل تضافرت في حدوثه عوامل أخرى؛ اقتصادية وسياسية. إذ أن التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى، ألقت بظلالها على التصورات العامة للدول العربية، وفرضت ضرورة الانخراط في التوجه الاقتصادي الحر ودفع المبادرة الخاصة وتحرير الاقتصاد. وما يؤكد أهمية العامل الخارجي الاقتصادي هو أن المدارس الخاصة لم تكن وليدة مرحلة التسعينات (الإصلاحات الهيكلية) بل إن المدرسة الخاصة كانت موجودة في بعض الأقطار العربية منذ مطلع القرن الماضي، لكن الإقبال عليها كان محدودا. تراجع التعليم العمومي وصعود أسهم التعليم الخاص، أفرزا واقعا تعليميا مشوها: مدرسة عمومية تختصر في التصور الجماعي في أنها علامة التعليم التقليدي المتهالك من ناحية البرامج أو المعدات والخدمات والبنايات والإطار الفاقد للكفاءات. ومدرسة خاصة تتوفر على كل مقومات جودة الخدمات وتوفر أنشطة ثقافية ورياضية متطورة. لكن التعليم الخاص ليس في متناول كل الطبقات. فقدت المدرسة العمومية ألقها المتصل بكونها مصعدا اجتماعيا، ودورها في بناء الوعي، وإسهامها في تحقيق التنمية وتكريس المواطنة لصالح تعليم خاص يوفر جودة مشوبة بغايات ربحية تجارية. تراجع التعليم العمومي لصالح التعليم الخاص، لم يحصل لأن المدرسة العمومية غير قادرة على الاضطلاع بأدوارها، وإنما لأن القائمين على الشأن التربوي لم يتصدوا حقيقة للإخلالات حتى يقوموا بالإصلاح العميق والجوهري في الوقت المناسب. أزمة التعليم العمومي هي أزمة الدولة قبل أن تكون موقفا من ولي قرر أن يتحمل عناء تسجيل ابنه في مدرسة خاصة، بحثا عن تعليم أفضل؛ “إذا كنا مدافعين فاشلين عن القضية، فالأجدر بنا أن نغير المدافعين لا أن نغير القضية”.
مشاركة :