منذ الزمن الذي كان فيه الطالب يرفع يده لكي يستأذن من المعلم في الكلام، وحتى الزمن الذي أصبح فيه المعلم يطلب من الطالب أن يسكت لكي يكمل الشرح... تغيرت أمور كثيرة، أهمها تحويل المعلم من مربٍ بكاريزما إلى موظف بكادر! واليوم أريد أن أشارككم ذكرياتي كطالب في المرحلة المتوسطة يريد أن يخلد ذكرى بعض المعلمين الكويتيين والمصريين والفلسطينيين حتى ولو بمقالة. معلم الاجتماعيات هو من جعلني أحب الجغرافيا والتاريخ، حيث بسط خرائطه يوماً لنا، ثم شرع يشرح على خريطة الكويت معالمها وسكانها وأنواع حيواناتها، لم يكن يشرح كجغرافي، بل كإنسان يضع ميكروسكوباً على التفاصيل ليكبرها، وكان يخبرنا دائماً أن العالم الحقيقي أكبر من أن يوضع على سطح ورقة!. لذلك فقد كان يحرر الخرائط من إطارها! فيحدثنا عن شجرة (الكنار) التي كان يجلس تحتها، وفي صندوق مفتاح الخريطة يضع علامة للشجرة معتبراً إياها المعلم الأكبر في الكويت، ويحدثنا عن جدته وكيف كانت تقرأ المعوذتين بهمس قبل أن تنام، وعن القطط التي كانت تطعمها، وحذرنا من شارع فيه كلب عض صديقه! وحدثنا عن محاولاته الفاشلة في زراعة الفراولة دون بيوت بلاستيكية. معلم العلوم له طريقة شرح مختلفة، فعندما كان يشرح لنا عن القلب وحجراته، كان يتكلم عن الحب، وعندما كان يشرح لنا مفاصل اليد وغضاريفها كان يتكلم عن العطاء، وعندما كان يشرح لنا عن العيون وقوتها كان يتكلم عن الغيب والإيمان بالله وأرض الله الواسعة التي لا تُرى للكثيرين! غريب هذا المعلم ولذلك فقد ظل في ذاكرتي كشخص... وكاسم فإذا لم تخني الذاكرة كان اسمه طارق. أما معلم الإنكليزي.. فلا أذكره!! معلم اللغة العربية استاذ رمضان... توفيت أمه، بكى أمامنا في الحصة الرابعة، اندهشنا... تأملنا... وقلنا (حتى المعلمون يبكون)!! وكتبنا مواضيع تعبير في خيالنا... بالنسبة لي ظلت ورقتي فارغة، وعندما كبرت وتوفيت أمي ملأت فراغ الورقة تحت عنوان (عندما تعجز اللغة العربية). معلم الرياضيات الاستاذ يحيى ملاكم متقاعد لا نحبه في الحصة، ولكننا أحببناه خارجها، قميصه المليء برسومات الزهور ومعطفه الجلدي البني الداكن وبنيانه الضخم وكف يده الذي يثير الرعب والتساؤلات... كلها أشياء كانت تجبرنا على أن ننتبه بحواسنا الخمس في الحصة، أحياناً وبحزن شديد كان يحدثنا عن كل البطولات التي انهزم فيها، فنتعاطف معه معللين ذلك أنه يحاول أن يضفي ملامح إنسانية على صعوبة مادته!! الأستاذ أحمد مشرف الجناح كان متخصصاً في الدفاع عن الخارجين والمتمردين على النظام المدرسي الشبيه بالثكنة العسكرية، لطالما كان محامي الدفاع الأول في مجلس النظام الذي يفصل الطلاب... كنا نختاره ونحن نعلم أن لديه القدرة على أن يخرجنا من أسوأ المواقف، كان يتعاطف مع الطلاب الذين جاءوا للمدرسة باستجابات محدودة بسبب إهمال آبائهم... سمعنا أحد المعلمين يوماً وهو يقول عنه إنه يساري متطرف! وقد علق أحد زملائنا القدساويين والذي كنا نعتبره أكثرنا ثقافة واطلاعا (اليساري المتطرف هو الذي يشجع النادي العربي ويجلس يسار المقصورة)... في حصة الرسم كنا لا نرسم، وفي حصة الموسيقى كنا لا نغني، وفي حصة التربية الإسلامية كنا لا نصلي. ربما يوماً ما أحدثكم عن المعلم الذي غير حياتي، كان كويتياً من عائلة الشمالي الكريمة، لم يكن فلسطينياً أو مصرياً أو أي جنسية أخرى من تلك التي تحاول تقارير التعليم إما أن تلصق بها التهم أو ترجع إليها الفضل... المعلم هو المعلم بعيداً عن جنسيته أو لونه أو تفاصيل كثيرة أكثر ما يميزها أنها لا علاقة لها بالتعليم. المعلم هو إنسان يعطيك المظلة عندما تمطر جهلاً، ويسحبها منك لتبحث عنها ذاتياً، المعلم يجعلك تفكر بالجسور أثناء السقوط، وبالشموع أثناء الظلام، وببساط الريح أثناء المشي... المعلم هو الذي يتناول خبراتك السابقة التي تعرفها بطريقة تجعلها أكثر لمعاناً لتشرق خبرات جديدة، ليس للجنسية هنا أي علاقة بتدني أو ارتفاع جودة التعليم... بعيداً عن المناهج والبنى التحتية للمدارس، يمكن القول إن إدارة تفوض جزءاً من سلطاتها + مربين بكاريزما وليسوا موظفين بكادر + أهل يعرفون سبب إنجاب أبنائهم + تشبيك وشراكة مؤسسات الدولة مع المدرسة + دولة تعرف لماذا وكيف تصرف على التعليم = جودة تعليم. أما اتهام جنسية أو تفضيل جنسية أخرى فهذا كلام أقل ما يقال عنه إنه إما كلام فارغ أو كلام مليء بالكلام الفارغ!! كاتب كويتي moh1alatwan@
مشاركة :