تروج عبارة «إنترنت الأشياء» Internet of Things كثيراً في الآونة الأخيرة عربيّاً وعالميّاً. وغالباً ما تقدّم في صور زاهية يرتسم فيها مستقبل تتولّى فيه الشبكات التقنيّة حلّ المشاكل اليوميّة للناس الذين ما عليهم سوى الاسترخاء وتسليم مقاليد مصائرهم إليها! إلى أي مدى يمكن الركون إلى تلك الصورة من دون تفكير نقدي معمّق؟ هل هي صحيحة كليّاً؟ الأرجح أن الحديث بالنبرة الورديّة عن «إنترنت الأشياء» يشبه التماع سيف متلاعب، لا يمكن ضمان على أي الجانبين تأتي ضرباته القاطعة. قبل الاستمرار في النقاش، يجدر التقاط الأنفاس قليلاً لأخذ فكرة عن «إنترنت الأشياء» التي تبشّر بها الشركات كأنها قدر لا مفر منه لمن يريد السير في ركاب تطور التقنيّة الحديثة. ويقصد بمرحلة «إنترنت الأشياء» أن توضع بيانات عن كل ما يملكه الناس من الأشياء (المنازل ومحتوياتها، شبكات الكهرباء، طرق المواصلات وتدفقاتها، السيارات ومعلوماتها، الأدوات التقنيّة القابلة للارتداء، المكاتب وأشياؤها، الطرقات ومكوّنها...)، على الإنترنت ومجموعة من شبكات رقميّة متصلة بها. وتقدّر شركة «ماركتس أند ماركتس» Markets Markets العالميّة أن حجم سوق «إنترنت الأشياء» مرشّح للنمو من 157 بليون دولار في 2016 إلى 662 بليون دولار في 2020. وكذلك لاحظت مؤسّسة «غارتنر» Gartner المختصّة في بحوث المعلوماتيّة أن عدد الأشياء المرتبطة بالإنترنت وصل إلى 6.4 بليون في 2016، بزيادة 30 في المئة عن العام 2015. إذاً، من نافل القول أن معظم النمو المتوقّع لـ «إنترنت الأشياء» يأتي من ربط الأشياء (وليس الناس الذين صاروا مربوطين فعليّاً) بالإنترنت، على رغم وجود سوابق تشير إلى إمكان ضربها في تلك الحال. هل كان «ستاكس نت» بداية «فيروس الأشياء»؟ نبّهت شركة «بالاديون» العالميّة إلى الأمر، مستعيدة التجربة مع فيروس «ستاكس نت» Stuxnet الذي استخدم في ضرب أشياء هي الآلات المكوّنة للمفاعل الذري الإيراني! إذاً، أليس من المستطاع وصف تركيبة «ستاكس نِت» بأنها نوع من «فيروس الأشياء»؟ كذلك لاحظت «بالاديون» أنّ أمن «إنترنت الأشياء» يحتوي كثيراً من المناحي الخطرة التي لم تجد المعلوماتيّة حلاً لها. وكذلك أشارت الشركة عينها إلى وجود بروتوكولات لـ «إنترنت الأشياء» في السوق على غرار («زيغ بي») و «كيو إي بي»، وبروتوكول منع الرسائل غير الواضحة المصدر («إي أم كيو بي») وغيرها. وبيّنت أنها بروتوكولات مشتقّة من تقنيات مستخدمة فعليّاً، ما يعني أن الخبرة في اختراقها موجودة أيضاً، فيكون ضمان أمنها صعباً تماماً. أليس تناقضاً فاضحاً دعوة الناس إلى وضع حياتهم وأشيائهم كلّها على شبكة لم تثبت إلا أنّها مكشوفة دوماً وقابلة للاختراقات بأنواعها؟ بلغة أكثر تقنيّة، تدأب الشركات الكبرى في المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة حاضراً على الترويج لضرورة الانتقال إلى مرحلة «إنترنت الأشياء»، لكنها تصمت صمتاً مدويّاً عن حال الانكشاف المريع الذي تعيشه الإنترنت، بل خصوصاً الانكشاف الفاضح لتلك الشركات بالذات أمام الاختراقات الإلكترونيّة والضربات الرقميّة من كل صنف ونوع! وفي العام 2016، سجّل القراصنة ضربات نوعيّة شتى، لعل أبرزها اختراق البنك المركزي لبنغلادش، والأهم أنهم اخترقوا نظام «سويفت» للتبادل المالي العالمي، وهي أمور وُصِفَت آنذاك بأنها تحدث للمرّة الأولى. أدّت ضربة «سويفت» إلى استبدال شامل لنظام التشفير في ذلك النظام الذي تعتمد عليه التعاملات المالية في العالم بأجمعه. استطراداً، استمرت ظاهرة سرقة البيانات من الشركات الكبرى للمعلوماتيّة التي يفترض أنها هي التي تحمي الجمهور(!)، لعل أبرزها ما اعترفت به شركتا «سوني» و «ياهوو». من ينسى أن «ياهوو» أقرّت بأن اختراق خوادمها أدى إلى السطو على بيانات بليون من حسابات مستخدميها، بل أقرّت أنّه فاق كل ما حصل معها قبله. إذاً، تصرخ الأرقام المتصاعدة عن البيانات التي يحصل عليها المخترقون من الشركات الكبرى، بعجزها الفاضح عن حماية نفسها، فكيف تكون الحماية عندما توضع بلايين (بل ربما حفنة من تريليونات) الأشياء على الشبكات الإلكترونيّة؟ وفي الأيام الأخيرة، ثبت أن حتى أشد المواقع التي تفترض الأذهان أنها محمية، هي هشّة ومنكشفة وغير قادرة على حماية نفسها. ألم يكن ذلك في قلب الكلام الصاخب الذي ما زال دائراً في أميركا في شأن التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة. صار ثابتاً أنّ مواقع الحزبين الأميركيّين المهيمنين على رأس السلطة في أميركا، اخترقها قراصنة من جنسيات متنوّعة، خصوصاً الروس والصينيين. ألا يفترض أن تكون تلك المواقع متمتعة بأقصى درجات الحماية وهي قابعة في قلب السلطة في البلاد التي تحتضن الشركات الكبرى للمعلوماتيّة والإنترنت؟ ماذا يعني أن يكون اختراق حساب وزيرة الخارجية الأميركيّة السابقة هيلاري كلينتون في بريد «غوغل مايل» سهل الاختراق، من أطراف لم يجر تحديدها لحد الآن؟ ما الذي قاله سنودن؟ عند نقاش أخطار «إنترنت الأشياء»، يجدر تذكّر قسوة الانكشاف على الشبكات التي بيّنتها الوثائق الشهيرة التي نشرها الخبير المعلوماتي الأميركي إدوارد سنودن. إذ أبرزت تعاوناً مريباً بين مؤسّسات الاستخبارات الأميركيّة والشركات الكبرى في المعلوماتيّة والإنترنت. أليس لافتاً أن تلك الشركات لم تنطق بحرف يشير إلى أنّها بصدد تغيير سياستها في تقديم بيانات إلى المؤسّسات الاستخباراتية في بلادها؟ الأرجح أنها لا تقدر على ذلك أيضاً. وفي مستهل 2017، أصدر موقع «فايسبوك» تقرير الشفافيّة السنوي مقرّاً بأنه قدّم بيانات للحكومات ومؤسّساتها بما يزيد بـ27 في المئة على العام الذي سبقه. وتذكيراً، تحصل الاستخبارات الأميركيّة تحديداً على بيانات الجمهور من الشركات الكبرى المستقرة في «وادي السيليكون» الأميركي، بموجب قوانين فيديراليّة سارية لا تستطيع الشركات التملص منها. وحتى في أوروبا التي تملك قوانين صارمة في حماية بيانات الجمهور، لم تتأخر الشركات في التجاوب مع ما تطلبه الحكومات واستخباراتها من بيانات، وهو أمر يجري تسويغه بمجريات الحرب على الإرهاب. وفي السنة الماضية، ظهر ذلك الأمر إلى العلن مع طلبات رسمية تقدّمت بها فرنسا وألمانيا (وهما حصنان للديموقراطية وقوانين حماية بيانات الجمهور) للحصول على معلومات عن بيانات الجمهور، خصوصاً من الشركات التي تدير شبكات الـ «سوشال ميديا» كـ «فايسبوك» و «تويتر» و «إنستغرام» وغيرها. وجرى الإقرار علانيّة أيضاً، بأن تلك الشركات كلها استجابت للطلبات الحكوميّة التي تذرّعت بمكافحة الإرهاب وشبكات التجنيد فيه على الإنترنت. إلى من نسلّم رقابنا شبكيّاً؟ بغض النظر عن الدوافع والمسوغات، ألا تعني الأمور الآنفة الذكر أن بيانات الجمهور ومعلوماته ومواده كلها هي في مرحلة الانكشاف الشديد؟ إذاً، كيف يمكن القفز على أمور لا يوجد لها حل، ومطالبة الجمهور بأن يسلّم رقبته أكثر فأكثر إلى شبكات منكشفة وشركات عاجزة عن حماية نفسها وبيانات جمهورها؟ الأرجح أن بعض التفكير النقدي بذلك المشهد ربما يقود إلى عكس ذلك، بمعنى التركيز على حماية بيانات الجمهور أولاً (وسُبُل الحماية أيضاً)، خصوصاً مساهمة الجمهور فيها. وفي ذلك السياق، يمكن التفكير بضرورة أن تنخرط الشركات في تعليم الجمهور الواسع أساليب الحماية، خصوصاً التشفير. مرّة أخرى، الوقائع تتعاكس مع ذلك. وحتى في أوروبا، شهدت السنة المنصرمة ظهور قوانين تحارب نشر التشفير Encryption وتعليمه. ومرّة أخرى وأخرى، كان الإرهاب ومحاربته ذريعة تلك القوانين، بمعنى أنها رأت في التشفير أداة تحمي الإرهاب ومواده وبياناته وأشخاصه (أمر ربما يكون صحيحاً)، لكنها أغفلت أن التشفير الواسع يحمي الجمهور أساساً. واستطراداً، ربما يكمن الشيء الأساسي في التفكير في حماية بيانات الجمهور حتى عبر نشر التشفير، ثم استكمال ذلك بتعديل طرق مكافحة الإرهاب في العوالم الافتراضيّة.
مشاركة :