نحو تصور أخلاقي للخروج من صراع «الهويات القاتلة»

  • 2/22/2017
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

لعل الوجه الأبرز لأزمة عالمنا المعاصر، متمثل أكثر من أي وقت مضى، في اختلال السلام والوئام، ليس بين الأمم والشعوب فحسب، بل بين الجماعات القومية والطائفية والإثنية، حيث بلغ الخطاب الاستئصالي الإلغائي حداً يهدد بتقويض الأمن السياسي والاجتماعي في عالمنا بأسره. فهل ثمة إمكان لإيجاد قواسم مشتركة تؤسس لمستقبل إنساني غير ذلك الذي تندفع إليه البشرية مع كل ما يترتب عليه من بؤس ومآسٍ؟ هل من خيار آخر ينهي الإشكال القائم بين الفرد والجماعة أو بين الجماعة والدولة على نحو يبقي على التنوع والتعددية ويحفظ حقوق الأفراد وحرياتهم؟ وأي دور للثقافة في ما يعصف بالعالم من محن وأزمات؟ على خلفية هذه التساؤلات المربكة، تناول نادر كاظم في كتابه «خارج الجماعة» (دار سؤال- 2016) إشكاليات الفرد والدولة والتعددية الثقافية، فرأى أن الجماعات تلجأ إلى الدولة من أجل تحويل اهتماماتها الخصوصية إلى قوانين عامة ملزمة للجميع، مستخدمة في ذلك كل أشكال الاختزال المؤذية بحق الإنسان وبحق التنوع والتعدد، مخيّرة الفرد بين التعامل مع الجماعة كما لو كانت «ولية النعمة» التي تتطلب الاسترضاء والخضوع، أو أن يعيش حالة من الاغتراب والنفي الدائم. الأمر الذي تمارسه الدولة بدورها تجاه الفرد الذي بات مطالباً بتقديم الولاء لجماعته ودولته معاً. إزاء هذه الممارسات، يجد المؤلف أن الإنسان ليس مضطراً لأن يختزل وجوده وحياته في أي من الانتماءات والهويات، إذ في ذلك تقليص للمجال التعددي الذي تنطوي عليه هوية كل واحد منا. فليس من حق الدولة ولا الجماعات أن تلزم الأفراد بتأكيد انتمائهم لجماعة أو لهوية ثقافية ما، بل يجب أن تكون للمرء حرية الاختيار لأن يعيش إنسانيته في غناها الكثيف الذي تنطوي عليه. غير أن هذا الحق قد يقود إلى تعميق انتماء الفرد إلى الجماعة على حساب الانتماء إلى الدولة، حيث يغدو التطرف نتيجة حتمية لسياسات التعددية الثقافية. فبريطانيا المناصرة للتعددية الثقافية، حيث توجد إلى جانب المدارس المسيحية مدارس للهندوس واليهود والسيخ والمسلمين، دفعت ثمن هذه المناصرة في ما تعرضت له لندن من تفجيرات عام 2005، ما حدا ببعض المحللين إلى اعتبار هذه التفجيرات «نتيجة للتعددية الثقافية». لكن التعددية ليست مذنبة كما يزعم جيل كيبل وآخرون، فالدولة المتعددة الثقافات ما زالت صيغة قابلة للحياة، وليس جائزاً اختزال التنوع البشري والحديث عن المسلمين أجمعين ككتلة تذوب في ما بين عناصرها اختلافات القومية واللغة والمذهب والجنس والطبقة، في حين أن الإرهاب الراهن ظاهرة سياسية وعسكرية أكثر مما هو ظاهرة دينية أو ثقافية. فقد أشارت مؤسسة موري للأبحاث الاجتماعية إلى أن البريطانيين بغالبيتهم عام 2005 يؤيدون التعددية الثقافية، وأن 87 في المئة من مسلمي بريطانيا يعتقدون أن التعددية حسنت المجتمع البريطاني. وإذ يطرح المؤلف التعارض الأساسي بين الأحادية التي تنطوي عليها الشمولية، وبين التعدد الذي ينطوي عليه العالم الحر، يرى أن التعدد والتنوع في الأفكار والاعتقادات دليل قوة الغرب الفائقة. فالتعدد وفق كارل بوبر، هو جوهر الحضارة الغربية، وعلى عكس الأنظمة الشمولية التي تطيح بالتنوع اللانهائي للبشر، ثمة تلازم منطقي بين التعددية والليبرالية. فالفردية هي صنو التطور، وتنميتها هي فقط ما ينتج كائنات بشرية متطورة، وأوروبا مدينة كلياً بتقدمها وتطورها للتعددية التي ترفض كل أشكال القولبة والتنميط التي تمارسها الدولة أو المجتمع، إذ كل الارتباطات ينبغي أن تكون طوعية، لأن عضوية الجماعة يجب أن تكون من خلال «العقد» وليس كحالة ثابتة. أما الثقافات والتقاليد فليست عوائق أمام الفردية، بل هي شرط وجود الفردية والاستقلال الشخصي. وإذا كان فكر التنوير قد افترض طبيعة بشرية واحدة تتمتع بحقوق طبيعية ثابتة ومتساوية، يبقى أن الالتزام الوحيد المطلوب هو المساواة المدنية والسياسية، حيث الخير الأقصى، وفق روسو، هو الذي ينبغي أن يكون غاية كل نظام تشريعي. هناك الكثير من الصراعات التي خاضتها الجماعات لكسب الاعتراف، لكن عادة ما تكون هذه معرّضة لأن تتحول الى جماعة منغلقة، وسيكون على الأفراد أن يخوضوا الصراع من أجل الاعتراف بهم كأفراد، من جانب الدولة وجماعتهم والجماعات الأخرى. وإذا كان على الجماعة أن تتواجه مع الدولة والجماعات الأخرى، فإن على الأفراد مواجهة جماعتهم والدولة والجماعات الأخرى من أجل الاعتراف بهم كما يريدون أن يكونوا، لا كما تريد جماعتهم أو دولتهم أو أية جهة أخرى. الأمر الذي بات في غاية الصعوبة والتعقيد، مع تراجع الفردانية والعقلانية لمصلحة تجمعات تقوم على الرغبة في العيش مع المثيل. حيث صار على المرء أن يشهر انتماءه أمام الآخرين من أجل الدخول في علاقة معهم، ولهذا يفضل بعض الليبراليين العيش خارج الجماعة لأنها مصدر للإكراه. فإذا كان العيش داخل الجماعة يوفّر الأمان والطمأنينة للفرد، إلا أنه يتطلب مقابل ذلك الالتزام الصارم بواجبات الجامعة، والتضحية برفاهيته وحياته من أجلها. أما إذا أقدم البعض على اختيار هويته، حتى لو انتهى به الأمر إلى الطرد والمقاطعة من جانب جماعته، فإن ذلك لا يكفي لإقناع الآخرين بالهوية التي اختارها لنفسه وعدم اختزاله في جماعتهم. في رأي المؤلف أن البشر يمكن أن يتخلّصوا من استبداد الهوية، إذا أدركوا أن بينهم جميعاً قواسم مشتركة، وأنهم يلتقون في هويتهم الإنسانية الجامعة. قد لا يكون ذلك كافياً لكبح غريزتهم في الحرب والعنف ورفض الآخر، إلا أنه من حقنا أن نؤمن بأن هذا ليس قدرنا، وأن على أصحاب «الهويات القاتلة» أن يتفكروا قليلاً، لا في الأخوة الإنسانية التي تجمع البشر فحسب، بل في أن إبادة الآخر ومحوه من الوجود، فعلان عبثيان يخفقان دائماً في إصابة هدفهما. وفي رؤيتنا الإجمالية للكتاب، نرى أنه أضاء على مسائل راهنة تقلق الإنسانية والإنسان العربي خصوصاً، مع انفجار الأصوليات الإقصائية للآخر والمختلف، إلا أنه يعاني إلى جانب ذلك من هنات غير هينات، ليس أقلها اضطراب السياق المنهجي، واسترسال المؤلف في استشهادات كاد يضيع معها بالكامل موقفه ورؤيته الأيديولوجية الناظمة.     * كاتب لبناني

مشاركة :