يعتبر كتاب “الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة” للكاتب والصحافي اللبناني أمين معلوف، واحدا من أبرز وأندر المراجع التي آلت على نفسها تفكيك قضية معرفية وسوسيولوجية ونفسية معقدة ألا وهي “الهوية” الفردية والجماعية وميكانيزمات تمظهرها في مسلكيات عنيفة وقاتلة. ذلك أنّ كتاب الهويات القاتلة في صفحاته الـ143، تطرّق إلى موضوع الهوية عبر زاوية تأصيلية طريفة بمنأى عن التحديدات الفلسفية المعقدّة، أو التقعيدات اللغوية الملتبسة بين مقاصد المنطوق وتجسيدات الموجود، قوامها أي زاوية النظر إلى الموضوع من سياقات التجريب والتجريد والغوص في القراءات الأنثروبولوجية والنفسية السوسيولوجية للجماعات الهوياتية. ولعلنا لا نجانب الصواب إن اعتبرنا أن كتاب أمين معلوف موضوع الدراسة كان له قصب السبق في طرق موضوع شائك في راهنه -في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات من القرن الماضي- وشاقّ في تداعياته التي لا تزال تلقي بظلالها إلى حين كتابة هذه الأسطر، والأكثر من ذلك أن النص على قلة صفحاته وعدم صرامته العلمية والمنهجية إلا أنه تمكن من تفكيك ظاهرة عويصة جدا ومعقدة، تتمثّل في الأسباب التي تجعل من هوية اجتماعية أو ثقافية أو دينية عادية هوية قاتلة ومبيدة للآخرين. من كتاب “الحروب الصليبية كما رآها العرب” الذي صدر في العام 1983، إلى كتاب “مقعد على ضفاف السين” الذي صدر عام 2017، جاب الكاتب اللبناني أمين معلوف عوالم الأدب والرواية والبحث التاريخي والدراسات والمسرحيات الشعرية. مسيرة توصّل من خلالها معلوف إلى نحت اسم عربي متفرد. تفرد نابع من القضايا التي طرحها أمين معلوف في مؤلفاته، وناتج عن صيته وأثره كعربي يكتب باللغة الفرنسية ويسبر في كتبه أغوار العلاقات بين الشرق والغرب، وبين الإسلام والمسيحية، وبين الأنا والآخر. كان أمين معلوف كاتبا بنظر كوني لكنه لم ينس أصوله اللبنانية، التي كانت قادحا ومنطلقا للعديد من مؤلفاته. الحرب الأهلية اللبنانية، بتعبيراتها السياسية والطائفية المتداخلة، كانت محفزا قويا لمعلوف كي يلج قضية ملتبسة وهي قضية الهوية وإمكانيات تحولها إلى أدوات قتل. كتاب “الهويات القاتلة، قراءات في الانتماء والعولمة” انطلق فيه أمين معلوف من الواقع اللبناني المطبوع خاصة بالحرب الأهلية بين عام 1975 وعام 1990، لدراسة واقع الهويات القاتلة، لكنه لم يكتف بدراسة الواقع اللبناني بل حوّل القضية برمتها إلى مدارها الكوني الإنساني، بأن حولها إلى قضية معرفية وفكرية، وأخضعها إلى الدراسة التاريخية والنفسية والسوسيولوجية. الهوية انتماء يمكن أن يكون عامل إضافة وتثاقف وتبادل، كما يمكنه أن يتحول إلى عامل احتراب وانزواء حضاري، إن حدث إفراط أو تطرف في الانتماء، فـ”الهوية صديق مزيّف”، كما يحذّر أمين معلوف، وهو في هذا الكتاب يدرس الميكانيزمات الخفية “التحت- أرضية” التي تحوّل الانتماء الهوياتي المشروع والقابل للآخر في مشروع تعدّد، إلى طلقة أو رصاصة أو حتى هتاف طائفي يتكئ على التاريخ. الحرب الأهلية اللبنانية والحقيقة أن كتاب “الهويات القاتلة” كان بوابة للعديد من المؤلفات والدراسات البحثية والمعرفية المحكمة لدراسة سوسيولوجيا الجماعات العنيفة، الأقلياتية منها والغالبية، لا سيما وأن العقد الأخير من الألفية الثانية، والعقد الأول من الألفية الثالثة اصطبغا بالصراعات الهوياتية والحروب الإثنية والعرقية. في منتصف تسعينات القرن الماضي ظهر كتاب “الهويات القاتلة” باللغة الفرنسية، قبل أن يترجم إلى اللغة العربية وإلى العشرات من اللغات الأخرى، إلا أن الحقبة التي مثلت عصارة النص وقادح اجتراحه كانت سنوات الحرب الأهلية اللبنانية بين 1975 و1990، والتي جسدت لأمين معلوف تجربة إنسانية في سياقها الفردي والجماعي المسيحي والجمعي اللبناني جد مؤلمة وجارحة. فتجربة الاقتتال والاحتراب بين الطوائف اللبنانية وبين الأحياء البيروتية والبقاعية وغيرها، على مدى أكثر من عقد من الزمان كانت البداية الفعلية في التفكير العميق حيال موضوع الهويّة، لا باعتبارها معطى قبليا أو مكتسبا عائليا ضيّقا وإنما هي سيرورة وتطور وتفاعل قد تفضي إما إلى التعدد والثراء وإما إلى الأحادية المنغلقة على نفسها والمنفتحة على أكثر البدائل دموية وتطرّفا. صحيح أنّ المفكّر اللبناني حسين مروّة (1910 – 1987)، والموسوعي مهدي عامل (1937 – 1987)، سبقا أمين معلوف في طرح قضية الهويات الأحادية من زوايا عديدة وثاقبة، لعل أهمها خطر الطوائف والطائفية على الدولة الوطنية اللبنانية، أو بعبارة أدق استحالة بناء الدولة اللبنانية الوطنية والحديثة من خلال الارتكاز الارتكاسي على البناءات الاجتماعية الوشائجية بعبارة هويات ما قبل الدولة وما بعدها. وصحيح أيضا أن قامة فكرية في حجم مهدي عامل استطاع تفكيك الطائفية الدستورية القانونية والسياسية بطريقة علمية ومعرفية متقدمة على كافة معاصريه، وتمكّن من خلال منظومة استقرائية عميقة جدّا أن يستشرف الأمراض والعلل السياسية والمدنية التي ستصيب الدولة اللبنانية في حال استمراء داء “الطائفية المقيت”. حيث تكفي اليوم قراءة أفقية لكتاب “في الدولة الطائفية” لمهدي عامل حتى يرى القارئ بأم عينه أن ذات المخاطر والمحاذير، التي نبه إليها عامل في سبعينات القرن العشرين، وقعت وتقع فيها الدولة اللبنانية حاليا، بل الأكثر من ذلك أن ذات التهديدات العميقة والهيكلية والبنيوية تضرب في العمق الدولة العراقية والدول الأخرى المهددة بـ”الطائفية”. على الرغم من كل ما سبق، فإن تميّز أمين معلوف ومكمن تمايزه عن عامل ومروة، تمثلا في قدرته على قراءة ميكانيزمات التفاعل والتطور الارتكاسي لدى الجماعات الهوياتية واستحالتها من جماعة عادية متعايشة مع الآخر، إلى جماعة رافضة للآخر ومستعدّة لفعل الإبادة والافتراس. إذ ينطلق أمين معلوف من مسلمة قوامها أن الهوية مركبة ومعقدة من جهة، ومتراكمة بمعنى السيرورة والتواصل من جهة ثانية، نافيا أن تكون الهوية ذات بعد أحادي أو ثابتة وفق محددات معينة. وعلى غرار الفيلسوف الكندي الذي يبدأ من الهوية الذاتية لتعريف الهوية في سياقها الأعمّ والأشمل عبر مقولته الشهيرة: إنّ الهوية هو ما يعنيه الـ”هو” مِنْ “هو”، يؤكّد معلوف أنّ الـ”هو ليس ذاته دفعة واحدة ولا يكفي بأنه يعي ما هو عليه، إنما يصبح ما هو عليه ولا يكتفي بأنه يعي هويته إنه يكتسبها خطوة فخطوة… لا تعطى الهوية مرة وإلى الأبد، فهي تتشكّل وتتحوّل على طول الحدود”. حقيقة الخوف وحقيقة التهديد في الدفاع عن الإنسان المركّب والهوية المتعددة، يتقاطع معلوف مع مفكري المدرسة النقدية ومنظري مدرسة الدراسات الثقافية (cultural studies) في التعريف الهوياتي للإنسان باعتباره ذاتا متعددة الجوانب والأبعاد، وفي التعريف الإنساني للهوية باعتبارها تراكمية في مستوى الأزمنة والأمكنة والتفاعل الحضاري أو ما اصطلح على تسميته في وقت لاحق بـ”التثاقف”. إلا أنّ السؤال المركزي الذي يجسّد الخيط الناظم لكلّ الكتاب متمثل في الميكانيزمات النفسية والاجتماعية التي تجعل من فعل الافتراس والإبادة بين المجموعات الهوياتية مسلكية شبه منتظمة وشبه حتمية أيضا. هنا يضع معلوف شبه منظومة تلازمية “نفسية اجتماعية” بمقتضاها تصبح فرضية الإبادة والإبادة المقابلة الخيار الأنسب للجماعات الهوياتية، حيث يعتبر أنّه “في اللحظة التي تشعر فيها مجموعة سكانية بالخوف تصبح حقيقة الخوف هي ما يجب أخذه بعين الاعتبار وليس حقيقة التهديد”. يضع أمين معلوف “عامل” الخوف الجمعي، من الإبادة والقتل الجماعي كمحرك أساسي ومحوري لولادة “الهويات القاتلة والجماعات الجريحة”، وهو بهذه الطريقة يقدّم تفسيرا نفسيا -بالإمكان مراجعته فيه- للاحتراب الأهلي في لبنان على مدى السبعينات والثمانينات، كما للاقتتال الداخلي المرير في يوغسلافيا سابقا ورواندا. ويمضي معلوف في بنائه التفسيري والتحليلي لمقولة “الهويات القاتلة”، عبر التماس ميل نفسي سماه في كتابه بـ”التعرّف على أنفسنا وانتمائنا الأكثر عرضة للخطر”، حيث يكون التعرّف على الذات وتعريفها أيضا منطلقا من الجوانب الدينية أو الإثنية والعرقية المعرّضة للخطر، وبمجرد أن يصبح التهديد حقيقيا والخطر داهما تستحيل مياسم الهوية المركبة إلى جانبها الأحاديّ وتتحوّل الارتسامات الدينية واللغوية والحضارية إلى “عصبية” إثنية، بمقتضاها تصير للطائفة قائد وللطائفة سلاح ومشروع في العمق هو مشروع إبادة، وفي الظاهر هو مشروع إنقاذ. معلوف يصدع بأنه ينطلق في مقارباته من زاوية أقلياتية للأزمة اللبنانية، يقر بأن قراءته ما كانت لها أن تأخذ هذه المسحة لو لم يكن في الصف الأقلياتي معلوف يصدع بأنه ينطلق في مقارباته من زاوية أقلياتية للأزمة اللبنانية، يقر بأن قراءته ما كانت لها أن تأخذ هذه المسحة لو لم يكن في الصف الأقلياتي هكذا تولد “الهويات القاتلة”، وهكذا يتحول الأفراد إلى جماعات مفترسة، وهكذا أيضا يصبح القتل والإبادة الجماعية موطن اعتزاز في نظر الجماعات المهيمنة. يلخّص أمين معلوف الهوية في هذا المفصل بجملة محكمة قوامها “إن الهوية صديق مزيّف، تبدأ بالكشف عن تطلع مشروع وتصبح فجأة أداة حرب”. وما كان للهوية أن تصبح أداة حرب، لولا استنادها إلى تناظرية متباينة حدّ التناقض بين “الأنا” و”الآخر”. بمقتضاها تخضع “الأنا” الجمعية إلى منطق التقديس، والآخر إلى مقولة “التدنيس” والشيطنة. مقولات أمين معلوف في المنظومات النفسية للجماعات المتقاتلة، نجد لها صدى في أعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الهندي أرجون أبادوراي في كتابه “الخشية من الأعداد الصغيرة”، حيث يعتبر الكاتب الهندي أن الجماعات الهوياتية تتحوّل إلى جماعات مفترسة بمقتضى التنميطات المتبادلة التي تمارسها الجماعات الدينية والعرقية والمذهبية على بعضها البعض، فعملية التنميط ووضع اللافتات التي تشيطن الآخر وتلبس الذات ثوب الملاك، وذلك من قبيل تأسيسها لمنظومة متكاملة من الادعاءات والصور النمطية ضدّ الجماعات الأخرى. وسواء سمّينا حالة الارتكاس الهوياتي بـ”القتل”، أو وصفناها بـ”الافتراس”، فإنّ محصلة الإبادة والاقتتال ورفض العيش المشترك وانتشار الصور النمطية التحقيرية والسرديات التمجيدية للذات والنحن الجماعي وغيرها من التمظهرات المتطرفة، تصبح بمثابة المعول الهدام لقتل “التاريخ الإنساني” و”هدم مقولة التمدن”. تجدر الإشارة المعرفية هنا إلى أنّ تجربة الاقتتال والاحتراب في لبنان (1975 – 1990) أو الهندية الباكستانية (1947 – 1965)، مكنت المدونة الفكرية الحضارية الإنسانية من كاتبين في قامة أمين معلوف وأرجون أبادوراي، تجاوزا لحظة الاقتتال ورفضا أن يكونا صوتين برسم رصاصتين ضمن حمام الدماء، وأمنا المسؤولية الإبستيمية والمعرفية للكاتب في صناعة الأمل الإنساني عبر تشخيص الألم المعيش. الكتاب في صفحاته الـ143، تطرّق إلى موضوع الهوية عبر زاوية تأصيلية طريفة بمنأى عن التحديدات الفلسفية المعقدة أو التقعيدات اللغوية الملتبسة بين مقاصد المنطوق وتجسيدات الموجود الكتاب في صفحاته الـ143، تطرّق إلى موضوع الهوية عبر زاوية تأصيلية طريفة بمنأى عن التحديدات الفلسفية المعقدة أو التقعيدات اللغوية الملتبسة بين مقاصد المنطوق وتجسيدات الموجود البديل الحضاري على مدى الصفحات المتبقية من “الهويات القاتلة”، يطرح أمين معلوف البديل الحضاري للأحادية الهوياتية، حيث يؤكد أن الهوية المتصالحة مع ثقافتها وذاتها وتاريخها ولغتها من جهة، ومع بيئة العولمة والسماوات المفتوحة و”قرية القارات الخمس”، قد تكون هي الترياق لفهم حقيقي للذات من حيث إنّ الهوية سيرورة وتراكمية مركبة ومعقدة، وفهم أحق لشروط التعايش المشترك والذي لن يتحقق إلا بمبادئ الاحترام والحوار. وكما ينطلق أمين معلوف في كتابه عبر التأكيد بأنه لبناني وفرنسي في نفس الوقت، ولا يستطيع أن يفك الهوية الأولى عن الثانية، ولا يتجنب الثانية من أجل الأولى، ولا أن يقدم الهوية الأصيلة عن الهوية المكتسبة، فإنه يطرح في نهاية الكتاب على أوروبا القارة العجوز تاريخيا، والعاجزة نسبيا اليوم عن حسم مواضيع من قبيل الهجرة والهوية واللغة والهويات الانفصاليّة في كتالونيا وكورسيكا وغيرهما من الأماكن الأوربية الأخرى، والتي تعرف حاليا انفراط قوة عظمى من ناديها الموحد، يطرح ويقترح عليها بناء أوروبا الجديدة القائمة، أساسا، على صياغة مفهوم جديد للهوية لها ولكل دولة تؤلفها، ونوعا ما لبقية العالم أيضا. الطريف في أمين معلوف أن مبدأ “التفكرية” التحريرية للذات الكاتبة متقرر عنده، فالمؤلف يصدع بأنه ينطلق في مقارباته من زاوية أقلياتية للأزمة اللبنانية، (الطرف المسيحي عامة والمسيحي من طائفة الروم الكاتوليك خاصة)، ويقر أيضا بأن قراءته للحرب اللبنانية ما كانت لها أن تأخذ هذه المسحة لو لم يكن في الصف الأقلياتي، قبل أن يستدرك بأن القضية الارتكاسية والانتكاسية من الهوية إلى القتل على الهوية باتت خيطا رابطا سواء للأقلية أو الغالبية طالما أن صوت الاحتراب والاقتتال هو الحاكم والناظم لحالة الهويات القاتلة أو المقتولة.
مشاركة :