مارتن وولف من أبرز إنجازات السياسة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، جعل النمو أكثر استقراراً، والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الاقتصاد العالمي مستمر في تحقيق النمو سنوياً منذ خمسينات القرن الماضي، ومن المؤكد أنه سينمو خلال 2017 بنسبة تفوق نموه عام 2016 ما الذي سيحدث للاقتصاد العالمي هذا العام؟ الإجابة الأقرب للمنطق هي أنه سيحقق النمو. الحقيقة التي أعتقد أنه لا مراء فيها هي أن الاقتصاد العالمي مستمر في تحقيق النمو سنوياً منذ خمسينات القرن الماضي. ومن المؤكد افتراضاً أنه سينمو خلال عام 2017 بنسبة تفوق نموه عام 2016، لكن ما الذي يمكن أن يسير عكس هذا الافتراض؟ لعل افتراض النمو في الاقتصاد العالمي هي الظاهرة الأبرز في العالم المعاصر. لكن النمو الدائم هو نسبياً ظاهرة حديثة. فقد سجل الاقتصاد العالمي انكماشاً في خمس سنوات فقط بين عامي 1900 و1997. ومن أبرز إنجازات السياسة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي جعل النمو أكثر استقراراً. ربما تم ذلك لأن العالم نجح في تجنب منغصات كبرى مثل الحروب والكساد العظيم. لكنه أيضاً تم بفضل الإدارة الفعالة في أنظمة المال والرغبة القوية في إدارة العجوزات المالية أيام الأزمات وزيادة الإنفاق الحكومي كنسبة من الناتج الاقتصادي. وتكمن وراء الرغبة في تحقيق النمو الاقتصادي قوتان كبيرتان: الابتكارات في الجانب الاقتصادي خاصة في الولايات المتحدة، ومحاولات اللحاق بالركب من قبل الاقتصادات الأقل تطوراً. ولا شك أن القوتين متشابكتان. فكلما تطورت عمليات الابتكار في الاقتصاد كلما تضاعفت جهود اللحاق بالركب. وفي المثال الصيني بالمقارنة مع الولايات المتحدة نجد أن نصيب الفرد زاد 23 ضعفاً خلال أربعين عاما بين 1978 و2015. ومثل هذه الفوارق هي التي تحفز اقتصادات مثل إسبانيا والبرتغال والهند التي لم يبلغ نصيب الفرد فيها من الناتج الإجمالي عام 2017 نحو 10%من نصيب نظيره الأمريكي. وهذا يفرض احتمالاً قوياً لاستمرار نمو الاقتصاد العالمي. وقد يحقق نمواً يتجاوز 3% ونادراً ما تدنت معدلات نموه عن تلك النسبة منذ عام 1950. وقد سجل نمواً بنسبة 2% خلال أربع سنوات فقط هي عام 1975 و1981 و1982 و2009. وكانت الثلاث الأولى بسبب أزمة النفط والرابعة بسبب الأزمة المالية العالمية. وحاول المحللون إقناع أنفسهم لبعض السنوات بأن التحفيز المالي ينتهي إلى تضخم مفرط. لكنهم أخطأوا. أما في الولايات المتحدة فقد أمكن لبرنامج التيسير الكمي متزامناً مع ضغوط على مجلس الاحتياطي الفيدرالي بخفض أسعار الفائدة، أن ينعش التضخم في المدى القريب ولا تزال هناك احتمالات للتعرض لأزمة انكماش. إلا أن نتائج سياسة دونالد ترامب في هذا المجال لن تظهر خلال عام 2017. وفيما يتعلق باحتمالات نشوب أزمات مالية كبيرة على مستوى العالم يبرز أمامنا احتمالان: أحدهما تفكك منطقة اليورو والآخر أزمة الاقتصاد الصيني. إلا أن كلاهما مستبعد رغم أن احتمال حدوثه يبقى قائماً. فإرادة الحفاظ على منطقة اليورو موحدة تبدو صلبة، كما أن الحكومة الصينية تملك ما يكفي من الوسائل لتجنب انهيار مالي. وتبقى المخاطر في الحالتين قائمة لكنها محدودة. أما نوعية المخاطر الثالثة فهي جيوسياسية. وكنت العام الماضي بين من توقعوا انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وانتخاب رئيس أمريكي مشاكس، وكلاهما قد حصل. ولا تزال تبعات انتخابه غير معروفة. ومن السهل جدا افتراض مخاطر جيوسياسية أخرى كالضغوط الشديدة على الاتحاد الأوروبي الناتجة عن أزمة اللاجئين والانتخابات وطموحات الرئيس بوتين والاحتكاك بين ترامب والرئيس الصيني أو بين إيران ودول الجوار وتهديد المنظمات الجهادية والصواريخ الكورية الشمالية. خلال عام 2016 لم تشكل التطورات السياسية تهديداً مباشراً للاقتصاد العالمي. أما هذا العام فهي مرشحة للتأثير أكثر. ومن أبرز تلك التهديدات الحرب التجارية بين واشنطن وبكين وإن كانت آثارها الاقتصادية على المدى القصير اقل مما يفترض الكثيرون، إلا أن آثارها بعيدة المدى ستكون كبيرة. والمشكلة هي أن الذي يفترض فيه أن يقود العالم من البيت الأبيض نحو الانتعاش وحل كافة المشاكل التي تعرقل النمو الاقتصادي يصدر إشارات مبهمة وكل ما نعرف عنه أنه يضعنا في دائرة الشعور الدائم بالخوف. وعلى المدى البعيد يبدو أن محرك نمو الاقتصاد العالمي سوف يضعف. ولا تزال محاولات اللحاق بالركب تمده ببعض الزخم وإن كانت ديناميات الاقتصاد قد تراجعت في جوهرها. ومن أبرز المؤشرات على ذلك التراجع تدني الإنتاجية ولجوء البنوك المركزية إلى الفائدة الصفرية. إلا أن الرهان على نمو بنسبة 3% في الاقتصاد العالمي هذا العام يبقى متفائلا. ولا شك أن نمو الاقتصادات الناشئة التي تقودها دول آسيا سيكون أفضل من نمو الاقتصادات المتقدمة التي قد تسعفها الابتكارات المتتالية لكن ليس بالقدر المطلوب. * كاتب في فايننشال تايمز
مشاركة :