البقاء للأصلح، أكيد. في معظم الكوارث (وليس أقلّ من هذا) التي مررنا بها في الأعوام الخمسة الأخيرة، كان السؤال يطلّ برأسه في صيغ مختلفة ليضعنا في مواجهة مرعبة مع فائدة الأدب والفن، بل أذكر أنني في لحظة كانت فيها أعداد القتلى تزداد، هاتفت صديقاً وسألته من دون أية مقدمات «ما فائدة كل ما نقرأه ونكتبه؟». لم يكن للسؤال أي معنى سوى أنه كان دلالة على لحظة يأس نابعة من العجز الكامل وعدم القدرة على استيعاب ارتفاع عداد القتلى (ولهم مسميات منها: عملاء، خونة، متآمرون، إرهابيون، شهداء...). كانت لحظة ظلام كامل لا أعرف تحديداً كيف تحسست طريقي لأعبر منها. وكأنّ هذه اللحظة ترتحل، تماماً كالأفكار، كالنظريات، كالهواء، لحظة قررت أن تحط برحالها في كل ثقافة، ولو لحين. وصلت اللحظة المظلمة إلى الولايات المتحدة بوصول دونالد ترامب إلى السلطة. لكنها وصلتنا «نحن» (إذا كان لهذا الضمير أي معنى)، حين أصدر الرئيس «المنتخب» قرار منع دخول المسلمين من سبعة دول. هكذا بقرار تتوقف حركة الترحال التي بدأت في شكل واضح في القرن العشرين وتصاعدت في القرن الحالي. تعددت ردود الأفعال المناهضة لهذا القرار، ووصل الأمر إلى القضاء، ودخل المجال النقدي والأدبي في صياغة اللحظة وإعلان المواقف. ففي يوم 3 شباط (فبراير) الماضي، أصدرت الجمعية الأميركية للدراسات المقارنة بياناً أرسلته إلى كل الأعضاء وإلى كل من شاركوا من قبل في المؤتمر السنوي الضخم الذي تعقده الجمعية. وجاء فيه: «إنّ مجال الأدب المقارن بطبيعته يتطلب الحوار داخل وعبر الحدود. وبالتالي فإن حرية الحركة للطلاب والباحثين- من وإلى- الجامعات، المؤتمرات، أماكن التدريس والبحث، هي على أهمية كبرى في هذا المجال. وعلى الناحية الأخرى، فإنّ ممارسة الأدب المقارن مهمة لكونها تعمل على تنامي الفهم والاحترام المتبادل بين الثقافات، واللغات والأعراق والأديان والحدود. ومن ثم تعلن الجمعية موقفها أنّ اللائحة الداخلية تلزمها قبول جميعهاالأعضاء من أنحاء العالم، وتلزمها أيضاً مساعدة أي طالب أو باحث يعمل في مجال الأدب المقارن، بغض النظر عن اللون أو الديانة أو الهوية. ويؤكد البيان أنّ قرار ترامب يعرقل البحث العلمي والتدريس والتبادل الثقافي، بل إنه يوقف الحوار الذي تقوم عليه الدراسات المقارنة. وتعد الجمعية أنها ستقف في وجه هذا القرار عبر تقديم كل وسائل المساعدة والدعم والتشجيع لمن يؤثر فيهم هذا القرار داخل الولايات المتحدة وخارجها. بذلك تحتفظ هذه الجمعية بصدقيتها العلمية والأخلاقية، باستقلالها الفكري الذي يؤكد الوعي بمعنى مجال الأدب المقارن، وهي اعتبرت أنها طرف رئيس في المعركة ولم تنح إلى موقف المتفرج. في الوقت ذاته، أعلن موقع أمازون- أكبر موقع في العالم لبيع الكتب الورقية والمرقمنة- أن رواية «1984» للبريطاني جورج أورويل قد نفدت وإن كانت متوافرة رقمياً. ما بال هذه الرواية التي صدرت عام 1948 تؤرق الجميع. ففي حين كان أورويل يسعى عام 1948 إلى تسليط الضوء على المستقبل (الذي كان بالنسبة اليه 1984) يعود القارئ إليها في عام 2017 ليفهم المستقبل. ليفهم ما سيكون عليه الأخ الكبير، الذي يراقب الجميع عبر شاشات الرصد. احتلّ خبر نفاد الرواية الكثير من المواقع الإخبارية، حتى أن دار النشر أعلنت أنها ستقوم بطباعة 75 ألف نسخة جديدة من العمل. شكلت المعاجم اللغوية ملاذاً للكثيرين في سعيهم إلى فهم ما يحدث عبر المادة الإعلامية المسموعة والمطبوعة. يقدم معجم ميريام وبستر الأميركي الذي تأسس عام 1831 وسيلة تتيح للقراء والمطلعين معرفة الكلمات الأكثر شيوعاً يومياً التي يتم البحث عن معناها. ومنذ مجيء ترامب احتلت كلمة «الفاشية» المركز الأول في البحث، لدرجة أنها لا تزال على القائمة حتى اليوم. المدهش في هذا الأمر أننا لم نتخيل ربما، أن ثمة أحداً لا يعرف معنى الفاشية (المشتقة من الإيطالية التي اشتقت من اللاتينية)، ولكن يبدو أنهم كثر. أما الأكثر طرافة، فهو أن كل كلمة غريبة على الأسماع يتفوه بها ترامب تحتل فوراً قائمة الكلمات التي يتم البحث عنها يومياً. وكأن مجيء ترامب لم يكن عاصفاً فقط على المستوى السياسي والمحلي والعالمي، بل قام بتحريك عواصف أخرى في مجالات لا تبدو على علاقة مباشرة بالسياسة اليومية، وإن كانت بالطبع تدخل فيها في شكل عام. يبقى الأدب، وتبقى اللغة، ويبقى البحث والقراءة والكتابة كأدوات تثبت يوماً بعد يوم أنها الأصلح، وقد نقول الأقوى حتى لو بدت في حينها غير ذلك.
مشاركة :