يروي أبو داود وابن ماجه والحاكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»، وذلك لما له من آثار سلبية على الفرد والأسرة والمجتمع بأسره. إن الطلاق هدم لبناء قد تم، وتشريد لأسرة قد تكونت، هذا فضلا عن ضياع الأبناء، وما يصاحب ذلك من حسرة وندامة يدركها الطرفان بعد الفوات حيث لا أمل يبتغى، ولا رجاء يجتبى، ولا ندم ينفع، ولا بكاء يشفع. ومع خطورة الطلاق وضرره الظاهر إلا أن الإسلام شرعه حين يحل الشقاق محل الوفاق، ويرى الطرفان أو أحدهما استحالة الحياة، هنا يبيح الإسلام الطلاق أملا في التغيير، «وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته»، لكنه يسعى مع ذلك إلى جعله طلاقا ناجحا، لا يهتك سترا، ولا يخدش حياء، ولا يتخذ من الفضائح والتشهير سلما إلى اقتناص الحقوق ولو على رقاب وأعراض الآخرين. بل جعله وفق قاعدة أصيلة، قاعدة الطلاق الناجح «ولا تنسوا الفضل بينكم». جاءت هذه الآية العظيمة في معرض حديث القرآن عن الطلاق كأنما هي الجسر الحقيقي للنجاة من آثاره، قال تعالى: «وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ». فالله يأمر من جمعتهم أقدس علاقة إنسانية، واستحالت العشرة الطيبة بينهما، ألا ينسوا ما كان بينهما من معروف، وأن يكون الفراق في إطار من الود يحفظ لكلٍ حقه فلا يعتدي على غيره، لا اعتداء بالظلم ولا حتى بذكر المعايب، ولا ينبغي في غمرة الغضب أن ينسى الطرفان ما كان بينهما من معروف، فالطلاق مهما كان مرا قد يكون فيه حبل النجاة لكلا الطرفين. ويلاحظ ان الآية جاءت بعد ذكر العفو بما يشير إلى مزيد ترغيب من التفضل، وإمعان في الترفع عن حظوظ النفس: {إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}. رحم الله الإمام الشافعي يوم قال: «الحر من حفظ وداد لحظة». نعم، الحر هو الذي يحفظ الود فلا يغيبه، ويرعى حق الصحبة فلا يضيعها وإن كانت في عمر الزمن لحظة، ولا ينسى الفضل لأهله وإن قلّ حجمه أو خف وزنه، ولا ينسى ساعات الصفاء واللقاء والود، ولا أيام التزاور والتواصل وإن كانت قليلة. لكن الواقع - وبحسرة نقولها - يبتعد تماما عن هذا الخلق العظيم، فلا تكاد ترى من يكتم على زوجه أمرها ولا من تكتم على زوجها شأنه، ويصبح حال كل طرف: أنا ومن بعدي الطوفان. نرى أسرارا تكشف، ومستورا يفضح وكذبا صراحا يلقى، وتلبيسا للحق بالباطل يقذف، حتى لكأنك لا تستمع إلى زوجين بل إلى عدوين. هكذا في لحظة أضحى ما كان بينهما من ود سرابا، فلا الزوج يذكر لزوجه حسنة ولا الزوجة تذكر لزوجها معروفا. وهذا نقوله على الغالب، وإلا فالخير لا ينقطع عن أمة محمد، وكم من رجل نبيل كتم، وكم من امرأة صالحة صمتت دونما تشهير. وبين يدنا نموذج لرجل صالح أراد طلاق زوجته، يا ليت تلك الواقعة تروَى ولا تطوى، يا ليتها تعلق على أبواب المحاكم الشرعية كمثال واقعي لمن اتسم بالأخلاق والتزم أمر الله في عدم نسيان الفضل بين الناس. اضطر الفقيه الكبير أبو البركات ابن الحاج إلى طلاق زوجته السيدة عائشة الكنانية، فكتب هذه الوثيقة: «يقول عبدالله الراجي رحمته، المدعو بأبي البركات، اختار الله له، ولطف به: إن الله جلت قدرته، أنشأ خلقه على طبائع مختلفة، وغرائز شتى، فمنهم السخي والبخيل، وفيهم الشجاع والجبان، والغبي والفطن، والمتكبر والوضيع، فكانت العشرة لا تستمر بينهم إلا بأحد أمرين، إما بالاشتراك في الصفات أو في بعضها، وإما بصبر أحدهما على صاحبه مع عدم الاشتراك، ولما علم الله أن بني آدم على هذا الوضع شرع لهم الطلاق، ليستريح إليه من عيل صبره على صاحبه، توسعة عليهم، وإحسانا منه إليهم. فلأجل العمل على هذا طلق عبدالله محمد أبو البركات ابن الحجاج زوجته الحرة العربية المصونة، بنت الشيخ الوزير الحسيب النزيه، المرحوم أبي عبدالله محمد بن إبراهيم الكناني، طلقة واحدة، ملكت بها أمر نفسها، ونطق بذلك إراحة لها من عشرته، طالبا من الله أن يغني كلا من سعته، وشهد بذلك على نفسه في صحته وجواز أمره». لله درك من رجل صاحب مروءة وفضل، لله درك من رجل راقب الله فلم يحمله الغضب على ذكر ما صح عن زوجته من معايب. هذا هو الوفاء لمن عرف معناه وتقيد به، ولله در من قال: إن الوفاء على الكرام فريضة واللؤم مقرون بذي النسيان وترى الكريم لمن يعاشر حافظا وترى اللئيم مضيع الإخوان;
مشاركة :