يروي الدكتور رضوان السيّد في مقال أخير له بعنوان «الموضوع الرئيس: علاقة العرب والمسلمين بالعالم» في صحيفة «الشرق الأوسط» (17 شباط/ فبراير 2017) أنه أتى إلى بيروت قبل أسبوعين أحد أركان الحزب الديموقراطي المسيحي الألماني. وتبين من محاضرة له عن تجربة حزبه الناجحة، أنه من أشدّ أنصار المستشارة أنغيلا ميركل حماسة، ومع ذلك فإنه أثناء شرحه الصعوبات التي يواجهُها الحزب في الانتخابات المقبلة، زلَّ لسانُه –إذا صحَّ التعبير–، فقال إن المشكلة مع المليون مهاجر سوري الذين استقبلتهم ميركل ليست أعدادهم الضخمة، بل في كونهم ينتمون إلى ثقافة مختلفة (!). وسألهُ السيّد: لكنّ عندكم منذ عقود نحو ثلاثة ملايين تركي مسلم، وما سمعنا من قبل أنكم شكوتم من اختلافهم الثقافي، والمقصود الديني؟ فقال بعد تردد: «لكنّ أحدًا منهم لم يمارس عنفًا، بينما مارسه عربٌ شبان وغير شبان بحجة دينية». فاجأ المحاضر الجميع بالقول: «هناك اقتناعٌ عميقٌ لا تعليل له في كثير من الأحيان بأنّ المتدينين العرب يبررون العنف لدى أقل إحساس حقيقي أو متوهَّم بالظلم أو التهميش، وانظروا تعليلات الإسلاميين العنيفين بإرجاع شكواهم وعنفهم إلى عهود الاستعمار، وإلى استيلاء الغرب الحاضر على العالم في قيمه وممارساته: ألم تمر الصين، وتمر الهند باستعمارات ومظالم أصلها غربي، أو أنّ القائمين بها غربيون، فلماذا لم تقم تلك الأمم الضخمة بما قامت به «القاعدة»، ويقوم به «داعش»؟! هناك خصوصيةٌ إذاً في ذلك للمسلمين، وللعرب من بينهم على وجه الخصوص». سؤال النائب الألماني وجيه. وإذا قلنا إننا لا نملك جواباً، فإننا قد نسقط في التفسيرات الثقافوية- الدينية السطحية التي لجأت إليها ثلة من الكتّاب العرب المقيمين في الخارج والذين استخدموا المنهج الاختزالي الديني في السنوات الماضية. أما نحن، فلن نقول إننا لا نملك تعليلاً كما قال النائب الألماني، بل نطرح جواباً أولياً قد لا يكون شاملاً، لكننا نعتقد أنه قد يقدم تعليلاً، ولو جزئياً، قائماً على تحليل مغاير بخصوص حالة واحدة هي حالة تشابك علاقة العرب والغرب مع الصهيونية. نكرر مع النائب الألماني: ...ألم تمر الصين، وتمر الهند، باستعمارات ومظالم أصلها غربي أو القائمون بها غربيون، فلماذا لم تقم تلك الأمم الضخمة بما قامت به «القاعدة»، ويقوم به «داعش»؟! إذا أخرجنا «القاعدة» و «داعش» من المعادلة لأنهما منظمتان يحوم الكثير من الشبهات حول قيامهما وتمويلهما وتسليحهما وعلاقاتهما بقوى محلية وإقليمية ودولية بهدف استخدامهما سياسياً و/ أو عسكرياً، لمصلحة هذه الدولة أو تلك، واعتبرنا أن هناك أفراداً ومنظمات عربية متدينة تمارس العنف بمبادرات ذاتية غير مشبوهة، يمكننا أن نكون أكثر موضوعية في تفسير الظاهرة: كون الظاهرة إسلامية غير شاملة يؤكدها النائب الألماني نفسه عندما يُخرج الأتراك من دائرة الاتهام (ولا يتحدث عن التنظيمات التي تدعمها إيران لأن الأخيرة توجه منظماتها العسكرية إلى جوارها العربي وليس إلى أوروبا وأميركا، ولأنّ ذنوب طهران الدولية أصبحت، على رغم الكلام الدعائي، مغفورة بعد الاتفاق النووي معها). وبالتالي أصبح الاتهام محصوراً بالعرب. وهو يستغرب تصرفات بعض هؤلاء العرب العنفية ضد الغرب بعد زوال الاستعمار وعدم أخذهم بسلوك الصينيين والهنود. ها هنا مربط الفرس: كلا يا سيدي، على عكس الشائع، لم يحمل الاستعمار الغربي عصاه ويرحل عن العالم العربي كما فعل مع الصين والهند. إنه مستمر في معالم عدة تصدم العربي يومياً وليلاً ونهاراً وتسلبه أرضه، تقتله وتدمر بيوته وتقتلع أشجاره وتصادر أرضه وتشعره بالذل ونقص الكرامة. أهم هذه المعالم إسرائيل وصهيونيتها التي لا تكل ولا تمل من زيادة توحشها ضد شعب فلسطين جسدياً ومعنوياً وضد محاولة أي نهوض عربي، أكان سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً. وقد حصل ذلك ولا يزال يحصل بسبب الدعم الأوروبي والأميركي المطلق، إذ أصبح القول «إن إسرائيل أقوى من كل الدول العربية مجتمعة» حقيقة مسلّماً بها في كل مكان. لا تكتفي تل أبيب بذلك، فلديها كل يوم مطلب يزيد توحشها على الأرض الفلسطينية وعلى الإرادات السياسية العربية من المحيط إلى الخليج. ولما كانت إسرائيل ومن ورائها الغرب العلماني والديني على السواء، قد هزمت المؤسسات العسكرية والسياسية لكثير من الدول العربية التي لا تجد من يسندها في الساحتين الإقليمية والدولية، قرر المجتمع العربي، واعياً أو لاواعياً، أن يأخذ المهمة على عاتقه: أفرز المجتمع العربي أفراداً وتنظيمات هدفها محاولة رد الصاع للغرب. ولما كانت إسرائيل تتحدث بلسان علماني تارة ولسان ديني تارة أخرى سار بعض الشباب العربي سيرها. فقام علمانيوهم أولاً بتأليف المنظمات الفدائية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين ثم قام إسلاميوهم بتأليف المنظمات الجهادية منذ الثمانينات وحتى اليوم. في الحالتين كان الغرب جاهزاً بإطلاق صفة «الإرهاب» على الذين لا يرون أن الاستعمار قد انتهى، وعلى الذين لا يرون أن الاستعمار الاستيطاني الصهيوني ليس في توسع مستمر. وقد يقول قائل: «إننا لا نرى أو نقرأ أثراً لموضوع فلسطين في أدبيات المنظمات المقاتلة أو في تفكير الانتحاريين الأفراد» وهذا صحيح. لكن الشعوب تتحرك في بعض الأوقات بشكل مباشر وأوقات أخرى بصورة غير مباشرة، بوعي أو من دون وعي كامل، بعقلانية أو بلا عقلانية. غير أن الإحباط العام الذي يشعر به العرب بسبب ضغوط الغرب وسياساته العدائية والمنافقة المستمرة منذ قرنين والتي استهدفتهم هم بالذات أكثر من غيرهم، وجعلت بعضهم يلجأ إلى استخدام أساليب قد تكون عنفية وقد تكون منحرفة وغير ناجعة. وهذا موجود في الموضوع الفلسطيني وفي غيره من المواضيع، ولكننا اقتصرنا على حالة واحدة هنا. والمؤسف أن الغرب «العلماني التنويري القوي المتقدم» يتصرف وكأنه بريء من المسؤولية ويجابه شراسة شعوب وأديان يصفها -من دون أن يتنبه إلى المفارقة- تارة بأنها قدرية استسلامية fatalistic وطوراً بأنها متعصبة fanatic.
مشاركة :