لا أتذكر جيداً صاحب ذلك اللقاء في إحدى البرامج الخليجية يشير فيه إلى الصراع العالمي وزمن العولمة والتهديدات الإقليمية وثقافة الأجيال الحديثة،إلا أنني أتذكر جيداً خلاصة حديثه عن ضرورة التغيير قبل أن نُكره عليه من قِبل الآخرين، فيكون ذلك التغيير ثقيلاً و لا يناسب ثقافتنا وهويتنا خلاف لو قمنا نحن بذلك. في حاضرنا، تمر المملكة كغيرها من الدول بحراك مجتمعي مستمر ومتنوع على مختلف الأصعدة الاقتصادية والحقوقية والاجتماعية والثقافية.تزيد وتيرة هذا الحراك وتقل حسب المتغيرات والأحداث ولا يمكن أن يمر الحديث عن هذه التقلبات و التجاذبات دون الإشارة إلى الحراك والنشاط النسوي الشبيه “بالطوفان” القادم أو الحصان الأسود الذي لا يمكن عنّه و كبح جماحه بالتجاهل والانتقاد أو التخويف. وهو ما يعيد الذاكرة إلى الموجات النسائية الأولى التي انطلقت في الغرب أواسط القرن السابع عشر الميلادي وما تلاها من موجات متصاعدة حتى نهاية القرن الفائت،شرعت مع بداياتها في نشر ورفع الوعي و هو ما أثار حفيظة القوى المعارضة وجعلها تطلق عليها ألقاب ساخرة كإسم “مجتمع الجوارب الزرقاء “الذي أشتهر في الأوساط الأوربية آنذاك.فيما أصدرت سيدات أمريكا وثيقة “سينيجا فيلز” المقتبسة من وثيقة الإستقلال الأمريكي وطالبن فيها بإعطاء المرأة حق حرية التعبير والزواج و التملك وغيرها.و قبل الإسهاب في الرأي، نود الاشارة إلى أن المعني هنا هو الحراك المخالف للجمود والسائد، لذا نستثني منه الجماعات النسوية المنسجمة مع الجمود والناشطات اللواتي أخذن على عاتقهن دور المعاكسة في الرأي بمساندة بعض التيارات لخلق حالة مضادة من نفس جنس المرأة بهدف المعارضة والحفاظ على الوضع القائم كما هو عليه.ويجد المتفحص للحراك النسوي أنهُ يملك مقومات لا يملكها غيره من الشرائح والمكونات الأخرى، إلا أنه يؤخذ عليه نوعاً ما تمحوره حول مظلومية المرأة واحتكارها للضرر دون غيرها،فيما ان حرمان سيدة من توصيل أبنائها للمدرسة و تدبير شؤون حياتها الخاصة يعد ظلماً للأطفال والرِجال و جميع مكونات الأسرة،وهو ما أجبر الكثير على إحضار غريب للاعتناء بعائلته مع تحمل أعباء تكاليف السكن والأجر الشهري.و فيما يلي نوجز أبرز ما تَميز به هذا الحراك على شكل نقاط مستقلة:١- تلقائية التفاعل:اعتادت المجتمعات من النخب والنشطاء وضع أُطر معينة لأجنداتها ومطالبها فيما تمرد الحراك النسوي على تلك الأُطر والترتيبات بالعفوية في التنظيم انطلاقاً من الضرورات التي أثقلت الحياة على كاهل المرأة، ومن أهمها منع القيادة وفرض الولاية والوصاية المطلقة وغيرها من المتاعب والمطالب التي حددتها فطرة الحاجة والمنفعة.والملفت للنظر هو ثبوت هذه النهج والإصرار عليه باختلاف المكان والزمان، وعدم التأثر بتحولات نظائرها من المكونات المجتمعية الأخرى. ٢- شمولية العناصر و تنوعها:لا يمكن لأيٍ كان تحديد ممثلين للحراك القائم، ولم يسبق أن تبنّت مجموعة بعينها تلك المطالب أو احتكرتها على نفسها، و نجد أن التمثيل يتبدل ويتنوع في الأدوار وفي التقديم وينساب في مختلف الأعمار والمهن والمراكز الاجتماعية،ما بين مثقفات ومسؤولات وكاتبات وموظفات وطالبات بل وربات منازل.٣- الاتساع والانتشار:برغم تصنيف شريحة المرأة لدى البعض من ضمن الأقليات وذلك من مبدأ الأقلية في الحقوق والامتيازات إلا أنها في واقع العددية تفوق نصف المجتمع،مما جعل تأثيرها لا ينقصر على منطقة أو قبيلة أو فئة أو أقلية،فالمرأة في كل بيت وشريحة ومجتمع وجزء من كل مشاريع الحياة النابضة،فطموحاتها وحراكها حاضر سواء إن كانت مع أو ضد.٤- أصالة الحقوق:يتبني الحراك الكثير من الحقوق الأساسية التي يكتسبها الإنسان بالولادة و الفطرة،والتي لا يمكن تجريمها أو وصفها بالدخيلة أو الغريبة كما جُرمت بعض المطالب الحقوقية والاصلاحية.كون هذه الحقوق ممنوحة وتُمارس من مكونات شريكة بالمجتمع تحت نفس النظام والدين والعادات وعلى نفس الجغرافيا،فمطلب التنقل بالسيارة أو رفع الوصاية في الحصول على وظيفة أو جواز سفر،ليس بالشيء الغير مألوف أو الجديد على مجتمع كل رجاله يقودون و يسافرون ويحصلون على وظائفهم و وثائقهم دون إذن.والغاية مما ذكر أعلاه،هي استشعار أهمية هذا الحراك الذي يعيش بيننا مهماً حاولنا تجاهله والعمل على استياعبه قبل أن يطمرنا، ومعرفة تفاصيله والمعاناة التي أثارته وعواقب تبعاته، فلم يعد مستغرباً أن نشهد أو نسمع عن قصصٍ في المحاكم لضحايا عنف بين أقارب أو عن هروب فتيات إلى دولٍ بعيدة،بحثاً عن مجتمع بديل يستوعب إنسانيتهم ويلبي حاجاتهم بعد إن حُرموا من حقوق تعد من الإلتزامات الأساسية بدول مجاورة،كخيارات العمل والدراسة وإصدار الوثائق الرسمية،علماً أننا بزمن بلغت فيه المرأة “بمجتمعات عربية و مسلمة” مستوى عالٍ من المشاركة في المجالات السياسية و القضائية والعسكرية،ولدينا من النماذج النسوية المحلية التي وصلت أصدائها أقطار العالم في مجالات الطب والهندسة والعلوم المختلفة. وما المخاوف التي يبثها أو يتحجج بها البعض من انفلات أخلاقي أو انسلاخ قيمي إلا حجج واهية لا يمكن سياقها على مجتمع مسلم محافظ بالفطرة تحكمه القيم الدينية والأخلاقية،بل على العكس تماماً إن ادعاءاتهم تتحقق بتعطيل هذه الحقوق، فَلَو ركزنا مثلاً على مساوئ انتشار شريحة السائقين الخاصين_مليون و نصف سائق_والتي من أبرز مظاهرها اختراق النسيج الاجتماعي والهدر الاقتصادي العالي، لكفتنا عن التعالي على هذا الخلل ولحثتنا بالإسراع في اصلاحه.لقد أنتجت النظرة الدونية المتراكمة للأنثى ثقافة أحادية قد تصل إلى مرحلة إقصاء المرأة نفسها،ثقافة تجعل منها سلعة تُبيح امتلاك ورثها وتزويجها من أجل الكسب المادي،وعند هروبها من رمضاء ذوي القربى فإنها تستجير بنار الأنظمة المترهلة ودور الحماية المشددة،حتى علّقت مئات الملفات من قضايا المعنفات والمعلقات والمطلقات بلا نظر أو حلول.كما شكلت هذه النظرة القاصرة عقلية تحارب التغيير والتطوير لمجرد وجود المرأة طرف فيها بغض النظر عن أية معايير أو حقوق أو منفعة،بل إن هذه العقلية الجمعيّة القاصرة قد تناقض نفسها وتتعارض مع مبادئها دون وعي كمعارضتها للقيادة بحجة عدم خروج المرأة والاختلاط،فيما لا تلقي بال أو اعتبار لخطر خلوة سيدة مع رجل غريب أو احتمالية تعرض فتاة أو طفل للتحرش والاغتصاب!وهذا ما يعزز فكرة أننا نعيش ثقافة الماضي الذكورية لمجتمعات متحضرة حالياً،فقد كانت القوانين البريطانية بالقرن الثامن عشر تسمح بتدخين السجائر في الأماكن العامة للرجال فقط!حيث سلطت ذكورية المجتمع حينها الضوء على منع المرأة من التدخين أكثر من تسليطها أو اهتمامها بمعالجة السلوك الخاطئ نفسه! أي تدخين السجائر.أخيراً،أؤكد أن جُل ما نحتاجه لتخفيف حدة التوتر في المواقف هو قليل من المنطق والانصاف ليتسنى لنا تقدير حجم المعاناة والتجني الذي نمارسه بحق المجتمع والصالح العام،والتي تتفاقم إشكالاتها كلما تلكأنا في علاجها،وما هذه الذكورية في مجملها إلا عَرْض مرض ونتاج عادات بالية و قوانين جامدة و تراث متراكم،نقدر على مواجهتها وتصحيحها بالإرادة وبتجاوز المسؤول عقبة المبرر الدارج “عدم جاهزية المجتمع”.الرأيعلي آل حطابكتاب أنحاء
مشاركة :