رهانات السرد الواقعي في رواية "صديقتي المذهلة" بقلم: مفيد نجم

  • 2/26/2017
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

الكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي تفتتح روايتها بتنويه تنفي فيه وجود أيّ علاقة بين شخصياتها وأحداثها مع الشخصيات والأحداث في الواقع لأن العمل من نسج الخيال.العرب مفيد نجم [نُشر في 2017/02/26، العدد: 10555، ص(12)]الكاتبة تلغي المسافة بين شخصية البطل والمتلقي تعيدنا رواية صديقتي المذهلة للكاتبة الإيطالية إيلينا فيرانتي الصادرة حديثا عن دار الآداب إلى عالم أحياء الهوامش العمالية الفقيرة على أطراف مدينة نابولي الإيطالية في خمسينات القرن الماضي، من خلال سيرة حياة صديقتين هما إيلينا وليلا اللتين نشأتا في ذلك الحي البائس وخبرتا حياة ساكنيه. وعلى عادة الروايات الواقعية التي تحاول أن تؤثر في أفق توقع القارئ تفتتح إيلينا فيرانتي روايتها بتنويه تنفي فيه وجود أيّ علاقة بين شخصياتها وأحداثها مع الشخصيات والأحداث في الواقع، وإذا حدث ذلك فهو محض صدفة لأن هذا العمل هو من نسج الخيال. والحقيقة أن الرواية التقليدية لطالما استخدمت هذا الأسلوب للإيهام بواقعية الرواية وبالتالي إغراء القارئ بالقراءة، خاصة وأن هناك تطابقا في الاسم بين بطلة الرواية/الراوي وشخصية الكاتبة، هذا التطابق الذي تكون لجأت إليه الكاتبة لتعزيز هذا الإيهام عند المتلقي. ولا تكتفي الكاتبة بهذا الأسلوب في تقديم عملها بل نجدها تستخدم في أسلوب السرد طرائق تقليدية في التعبير كقولها “أذكر أننا” و”نسيت أن أقول لكم” و”اتضح لي تحديدا”. وتكتمل هذه الإحالات في بنية الرواية من خلال الجدول الذي تصدّر به عملها على غرار كتّاب المسرح بأسماء عائلات ذلك الحي وأسماء أبنائهم وبناتهم، لكي يسهل على القارئ التعرف سلفا على هذه الشخصيات الكثيرة التي تتداخل مصائرها وعلاقاتها داخل العالم الروائي للكاتبة. السرد الروائي تتميز لغة السرد الروائي بتركيزها الواضح على سرد التفاصيل الخاصة بالمكان أو الأحداث والشخصيات، على غرار ما تتميز به الرواية الواقعية التقليدية، إضافة إلى استخدام الكاتبة للسرد الخطي التعاقبي والتصاعدي على الرغم من أن الكاتبة تبدأ السرد من نهاية الرواية، من لحظة اختفاء شخصية الرواية الثانية ليلا فجأة دون أن تترك لابنها العبثي أيّ أثر يدل على وجودها، فيتوجه إلى صديقتها إيلينا علها تعينه على معرفة مكانها، لكن صديقتها تدرك أن ليلا قررت أن تختفي نهائيا، فتحاول أن تستعيدها، ولكن من خلال استعادة حياتهما التي عاشتاها في ذلك الحي البائس بدءا من طفولتهما وحتى غياب أيّ أثر لصديقتها.الرواية تنشغل بشكل أساسي بتجربة الأنثى وعلاقتها بجسدها منذ وعيها الأول بتحولات جسدها وظهور علامات الأنوثة، إضافة إلى علاقتها بالرجل وصراعها بين الحاجة العاطفية وأخلاقيات الواقع الاجتماعي تظهر صيغة السرد بضمير المتكلم المفرد منذ العنوان الذي يجعل من شخصيتي بطلة الرواية وشخصية صديقتها ليلا المحور الذي تدور حوله أحداث الرواية، متتبّعة أثر هذه العلاقة على حياتها وخياراتها وحتى تفوّقها الدراسي، نظرا لما تتمتع به صديقتها من نباهة وذكاء رغم مظهرها الطفولي الدال على القسوة والانعزالية وانعدام المشاعر. تلغي الكاتبة المسافة بين شخصية البطل/السارد والمتلقّي من خلال استخدام ضمير المتكلم الذي يكون فيه الخطاب موجها مباشرة إلى القارئ، وبقدر ما يضفي ذلك من حميمية على العلاقة، فإنه يجعل شخصية السارد تهيمن على السرد الحكائي وتجعله حاضرا في كل مكان، ما يوحي وكأن الرواية هي سرد لسيرة ذاتية لبطلة الرواية وكاتبتها، خاصة وان الكاتبة كما أسلفنا تستخدم التحفيز الواقعي، سواء من خلال استخدام التواريخ أو الأسماء الواقعية للأماكن أو محاولة إيجاد علاقة من نوع ما بين الرواية والواقع. شخصيات الرواية كما هو واضح من توزيع شخصيات الرواية على مجموعة كبيرة من العائلات التي تسكن ذلك الحي الفقير، فإن الرواية تحفل بعدد كبير من هذه الشخصيات التي هي في أغلبها شخصيات عمالية، لكنها جميعا تبقى شخصيات فرعية، في حين تستحوذ شخصية البطلة وصديقتها ليلا على بطولة هذا العمل. تشكل شخصية ليلا المذهلة أو الغريبة كما تصفها الكاتبة في العنوان وفي المتن السردي نقطة جذب وعنصر تحدّ في آن معا بالنسبة إلى بطلة الرواية، التي تحاول أن تسايرها في التحدي أو في الاهتمامات والتفوق الدراسي والقراءة وتعلم اللغة اللاتينية، ما يجعل وجود ليلا ضرورة بالنسبة إليها نظرا لما تشكله من حافز وتحريض لها على التفوق والقراءة. لكنّ مصائر هاتين الشخصيتين تنتهي بافتراقهما عندما يعجز أهل ليلا عن دفع أجور مدرستها فتنتقل للعمل في محل أحذية والدها، وهي تحلم بالثراء من خلال تصميم أحذية جديدة، إلا أن هذا الحلم ينضاف إلى خيباتها الأخرى التي تجعلها أكثر جمودا ويأسا. وعلى الرغم من هذا الافتراق في المصائر، تظلّ ليلا حاجة كبيرة لبطلة الرواية تستمد منها المعرفة والقوة في وقت لا تظهر فيه ليلا أيّ مشاعر تجاهها، وإن كانت تحاول أن تتفوق عليها من خلال سؤالها الدائم لها عمّا تتعلمه في المدرسة. في هذا العالم المعزول تتداخل مظاهر البؤس والعنف، سواء من خلال سلوك ساكنيه أو لغتهم اليومية “كان عالمنا هكذا يغص بالكلمات القاتلة.. الالتهاب، الكزاز، الحمى التيفية، الغاز، الحرب، المخرطة، الأنقاض، العمل، القصف، السل، وما زلت أنسب كل مخاوفي التي رافقتني طوال حياتي إلى تلك المفردات وتلك الحقبة”. وإذا كان وعي بطلة الرواية الذاتي والعام الاجتماعي يتأسس وسط هذه المظاهر والأوضاع القاسية، فإن انعكاس ذلك يظهر على سلوك وأفعال شخصيات الرواية، بل ويظهر من خلال وعي شخصياتها السياسي بالنسبة إلى الطبقة المتعلمة في هذا المجتمع.رصد حالة الانقسام الاجتماعي والطبقي في المجتمع الإيطالي تنتقل الرواية في سردها بين مستويات مختلفة من التجارب والتحولات الغريبة التي كان يعيشها سكان القاع في المجتمع الإيطالي أثناء الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، حيث كان الصراع يشتد بين الأفكار والعقائد، عند أنصار الشيوعية والملكية والفاشية بينما تظل الرواية تنشغل بشكل أساسي بتجربة الأنثى في هذا المجتمع الفقير وعلاقتها بجسدها منذ وعيها الأول بتحولات جسدها وظهور علامات الأنوثة، إضافة إلى علاقتها بالرجل وصراعها بين الحاجة العاطفية وأخلاقيات الواقع الاجتماعي. انقسام اجتماعي تهتم الرواية برصد حالة الانقسام الاجتماعي والطبقي في المجتمع الإيطالي آنذاك من خلال محاولات شباب الحي العمالي اختراق حدود المكان الخاص بحيّهم وطبقتهم الاجتماعية، والذهاب إلى الأحياء الراقية، حيث الاستقرار ومظاهر الثراء والجمال، لكن هيئتهم الفقيرة والنافرة في شوارع هذه الأحياء تجعلهم هدفا لسخرية وكراهية شبابها، الأمر الذي يؤدي إلى صدام عنيف ودام، وكأن ثمة حدودا مرسومة بين فئات المجتمع لا يجوز اختراقها. التحول الوحيد والأساسي الذي يطال أبناء هذا الحي هو نجاح بعضهم في الالتحاق بالمدارس العليا والحصول على المعرفة، لكنّ الكاتبة المعنية أكثر بسيرة بطلتها تجعل الاهتمام بأثر هذا التحولات يأتي على هامش أحداث الرواية، كما هي حال سائر التحوّلات التي تطال الوضع الاجتماعي للعديد من عائلات الحي نتيجة انتشار الفساد والربا. تنتمي هذه الرواية إلى الروايات الاجتماعية التي تركز على إبراز مظاهر هذه الحياة والعلاقات التي تحكمها، إضافة إلى التحولات التي تطرأ عليها مع دخول أبناء الجيل الجديد ممن تتوفر لهم الفرصة لدخول المدارس ومتابعة تعليمهم. ولا تتجاوز هذه الرواية في مقاربتها إلى هذا العالم الأسلوب الذي تتبعه هذه الروايات. لذلك يكون مفاجئا للقارئ التعليقات التي وضعها الـناشر على غـلاف الروايـة الأخير، فهي فإما تعود إلى زمن صدورها، أو أن ثـمة اختلافا في الذائقة الـجمالية للـقراءة، لأن الرواية العالمية حققت تطورا كبيرا في أساليبها وبناء شخصياتها، ورؤيتها الجمالية إلى العالم، تتجاوز القيمة السردية والجمالية لهذه الرواية، على الرغم من محاولة كاتبتها تقديم نموذج خاص لشخصيّاتي بطلتي الرواية وواقع الحياة الاجـتماعي للطـبقة العـمالية المـسحوقة في المـجتمع الإيـطالي في تلك الحقبة من الزمن. كاتب من سوريا

مشاركة :