في دواوينها الشعرية الصادرة حتى الآن: «أكبر من نافذة قطار» (2008)، و«الياطر الحزين» (٢٠١٢)، و«ملاءات رقيقة في غرفة واحدة» (2014)، و«مقامات الخيبة» (2016)، ترسم الشاعرة اللبنانية دارين حوماني الواقع بكل ما يحمل من بؤس ومعاناة، كيف لا وهي نشأت وترعرعت وسط ظروف سياسية وأمنية واجتماعية، سجنتها في شرنقة لا تكاد تقوى على الخروج منها. لذا امتشقت قلمها وراحت ترسم الواقع بكل ما فيه من بشاعات، علها تتمرّد عليه وتتحرّر من كل ما يحيط بها، كونها امرأة شرقية، من خيبات وبؤس... وفي الوقت نفسه تبحث عن هوية وعن وطن، لترسخ جذورها، لذا لا تنفك تمشي في دروب متعرجة وممرات ضيقة غير آبهة بما تصادف من موت ودمار في أرض ذاقت صنوف الحروب ولا تزال مزلزلة بفعل تداعياتها، متسلحة بقوة الشعر والكتابة، تجابه بهما الخيبات والمرارات اليومية بإرادة للتغيير لا تقاوم. كونها شاعرة شابة، تحرص دارين حوماني على إثبات حضورها على الساحة الأدبية اللبنانية والعربية، من خلال قصيدة النثر التي تعتبرها مرآة تعكس عمق ذاتها وخير تعبير عن مكنوناتها وآمالها ومعاناتها. حول نتاجها الشعري وتقييمها واقع الشعراء الشباب اليوم، كان الحوار التالي مع الشاعرة دارين حوماني. كتابك الجديد «مقامات الخيبة»، هل هي الخيبة من الذات أم الوطن أم من الآخر أم من المجتمع؟ مقامات الخيبة هو تدوين للمناخ النفسي، للإحساس بعدم الرضا تجاه الذات، لصدماتنا من الآخر، لعدم القدرة على تغيير كل ما هو مؤلم في مجتمعنا، لحزننا مما يجول في المحاكم، وهي الآلة التي تظلم بدل أن تعدل. يتضمن الديوان وجدانيات وسيرة ذاتية وقصائد حب، لماذا الجمع بين هذه العناصر الثلاثة وهل شعرك ملتصق بتجربتك في الحياة؟ لا يستطيع أي كاتب أن يخرج من ذاته، وخصوصاً في بدايات كتابته. الذات هي العنصر المحرّك، والتجارب المتراكمة تجعل النص أكثر عمقاً... كتبت من منطلق نفسي وممّا شاهدت وتأثرت وتألمت، والمحيط هو العنصر التالي الذي يكوّن كتابتي. لا أنكر أبداً أنّ معظم كتاباتي عبارة عن سيرة ذاتية، لكني أعتقد أن الجمال الطبيعي يحدث حين تتخفف الصناعة ويتخفف التكلف في مقابل كل ما هو وجداني حقيقي. ترسمين في الديوان واقع المرأة في المجتمعات العربية فهل يشكّل هذا الواقع الخيبة الكبرى بالنسبة إليك؟ إنه الموضوع الأكثر ألماً. تدخلين المحاكم فتجدين بؤرة من الفساد. وددت أن أسمّي مجموعتي الشعرية «بقعة من البكتيريا»، أعتقد أني سأفعل ذلك في المجموعة التالية. فعلاً هي بؤرة من الفساد وظلم حاد للمرأة والطفل سوية، وسيمنحكِ الدخول الى المحاكم جرعة كبيرة من الكآبة لحال المرأة فيها. أصدرت في العام 2012 ديوان «الياطر الحزين» وفيه أيضاً تصوير لحالة المرأة التي تصفينها بالإسفنج، لماذا هذا الوصف بالذات؟ يبدو واضحاً أنّه في مجتمعاتنا على المرأة المتزوجة، والأم تحديداً، أن تتحوّل إلى إسفنج يمتصّ المعاناة والخيبات ويبقى مستقيماً، أعتقد أنه التشبيه الأقرب لما يمرّ على المرأة لكي تستمر، وللأسف سنشاهد الكثير من القصص التي تتعرّض فيها المرأة للظلم وتستمر لأسباب تتعلق بالنتائج المؤكد حصولها والتي ستكون أكثر إيذاءً... قصيدة النثر اخترت قصيدة النثر وسيلة تعبير لك فهل تعتبرينها الأقدر على تصوير آرائك وأفكارك؟ قصيدة النثر هي إحدى الفنون الجميلة التي تعبر بالأصوات الداخلية إلى الفضاء الخارجي، وهي الخطوة الأولى td شغفي بالكتب الذي سيترجم في ما بعد إلى كتابات ستتبلور إلى قصائد نثر... أعتقد بأنّ كتابتي قصائد النثر هي جزء من تكويني النفسي لشغفي بالكتب منذ كنت صغيرة، ومع السنين أصبحت نتيجة لتفاعل بين الإحساسات والأصوات الداخلية وبين الوجود. منذ متى بدأت علاقتك بالكتاب والكتابة؟ أتذكر عشقي لقراءة الكتب وامتلاكها منذ بدأ وعيي يتكوّن. أذكر أني كنت أيام الأعياد أشتري قصصاً بما أحصل عليه من الأهل بدل شراء الألعاب، لما كنت بعد في التاسعة من عمري. وعندما أخذ وعيي يتكثف ازداد هذا التفاعل النفسي مع الكتب وبدأت أرتاد المكتبات العامة، وكانت نادرة جداً، وذلك للتعرّف والقراءة وللبحث عن عالم أؤمن به. صارت عندي حاجة ملحة للكتابة فبدأت محاولات لنظم الشعر الموزون، ثم وجدت أن مخيلتي ممتلئة صوراً تريد أن تخرج بحرية ومن دون قيود، فكانت قصيدة النثر التي هذّبتها على يديّ محمد الماغوط ومحمود درويش أولاً ثم إليوت ورامبو وبريشت وريلكه وآخرين في ما بعد.. تبدو معاناتك مما يجري من حولك من موت ودمار واضحة في قصائدك، فهل المعاناة وحدها تجعل القلم يسيل بالإبداع؟ الموت، الحب، الفراق، الألم، الرفض وأمور أخرى هي مكونات أي عمل فني، ثمة نتاجات أدبية كثيرة، بعضها يتسم بالسطحية وبعضها الآخر يتسم بعمق وتأثير كبيرين، مردّ ذلك إلى عمق الأذى النفسي الذي قد يكون مرّ على الكاتب. أعتقد أنّ الذين يكتبون أعمالاً جيدة هم أشخاص حساسون جداً. لقد أثّر الموت المحيط بي بشكل كبير، ثمة موت معنوي وثمة رفض للفساد والظلم، واستمرار هذه الأمور هي موتنا جميعاً. بين الواقع والمثال أنت باحثة ربما عن عالم مثالي لا وجود له إلا في الكتب، فكيف توفقين في كتاباتك بين الواقع والمثال؟ هذه هي المشكلة الأساسية، تشعر بأنك تعيش في عالم لا تستطيع العيش فيه. لا تستطيع أن تكون فرداً في منظومة كاملة من الفساد الاجتماعي والنفسي، تريد أن تعبر إلى الخارج فلا تجد إلا قصائدك، الوحيدة القادرة على إزالة الحدود بين الواقع والمثال، الكتابة هي علاج مؤقت لهذا الإحباط من الواقع. أشعر دائماً بعدم القدرة على مجاراة الآخرين وأن أكون مثلهم أو حتى منهم. إنه شعور بعدم الانتماء والبحث الدائم عن عالم تنتمي إليه، ذلك لا يتخفّف إلا عبر تدوين الأمور المحزنة برمزية. كونك شاعرة شابة وامرأة، ما هو واقع الشاعرات الشابات في العالم العربي؟ كل فنان أو صاحب رسالة أدبية أو فنية سيحتاج إلى وقت لإيصال أصواته الداخلية. عامل الزمن مردّه إلى عدم الاعتراف بالمواهب الشابة من المكرّسين، بل وقد يصل الأمر عند معظمهم إلى اعتبار أنّ الزمن توقّف عندهم، وأنّ كل ما هو مقبل سيكون رديئاً أو مقلّداً. في المقابل نجد من يؤمن بالأصوات الشعرية الشابة ويعتبر أنّ لديها ما تقوله. لكل زمن مقاماته الشعرية ولا يجوز ردم المواهب الشابة وجعلها تصاب باليأس، وسائل الإنترنت أوصلت الكثير من الأصوات لكننا لن ننكر وجود محاولات احتكار من البعض للمهرجانات الأدبية أو العالمية. تشاركين في مهرجانات شعرية وأمسيات شعرية، الى أي مدى تبتكر هذه النشاطات مساحة لقاء وتفاعل مع الجمهور وهل من جمهور للشعر اليوم؟ هذه المهرجانات والأمسيات أجمل ما يحصل في لبنان وفي العالم العربي أيضاً، تبتكر مساحة للثقافة والفن نحتاج إليها جميعاً وسط النزاعات والحروب والفساد وانهيار مفهوم الدولة في أغلب بلادنا العربية. صحيح أنّ ثمة زخماً في الإنتاجات الأدبية، لكن المتلقي الذي يتذوق الفن هو من مزيج اجتماعي مثقف يميز الجيد من الرديء وحتماً ستبشّر هذه المهرجانات والأمسيات بشعراء وفنانين من الشباب لديهم مواهب حقيقية. ترسمين في قصائدك اللحظة الحاضرة بتجاربها كافة، ماذا عن المستقبل ألا تحلمين به؟ المستقبل مخيف بالنسبة إلي. لا أريد أن أعطيك مساحة تشاؤم، لكن تزداد النزاعات في لبنان والعالم العربي، وثمة صعوبة في بناء دولة في لبنان. إذا كنت موظفة في مؤسسة لا نظام مؤسساتياً فيها يعطي كل ذي حق حقه ويحاسب من دون تمييز ومن دون وجود سلطة خارجية أو داخلية تفرض على المؤسسة كيفية التعامل مع العناصر الأخرى، أمر مرهق جداً، فكيف إذا كنت مواطنة في بلد بلا نظام. محزن جداً أن نعيش في مكان لا أمل للتغيير في أفقه، لا سيما أن الشعر فقد وظيفته الإعلامية التي درج عليها في القديم، كوسيلة لذمّ السلطات للتأثير في الشعب بهدف التغيير. الشاعر ابن بيئته، فإلى أي مدى ساهمت بيئتك في رسم خطك الشعري؟ يتسم معظم قصائدي برفض الواقع، والتقاليد، والسلطات الدينية، وهي رغبة للخروج بالمكان إلى النظام والعدل والمساواة مع حرية اجتماعية. كلها أمور كان لها دور في رسم معالم قصيدتي، مع يقيني بأنها ستبقى مجرّد كتابات لن تقدّم ولن تؤخرّ حيث تكاثر الفساد في مؤسسات الدولة وفي السلطات المرتبطة بها.
مشاركة :