«العبور بلا ضوء» ديوان جديد للشاعرة اللبنانية دارين حوماني صدر عن دار «فواصل» وهو الرابع لها، وكتب له مقدمة الشاعر عباس بيضون، وهنا ننشرها كاملة. يشعر قارئ دارين حوماني بخفّة قلّما تتاح لقارئ الشعر، فهو يقرأ كما يتمشّى، ويعبر من سطر إلى سطر خفيفاً سلساً. لا يغادره شعور من يتنزّه أو من يتجوّل، ولا يصادف في طريقه إلاّ ما تألفه عيناه وما يشبهه أو هو على الأقلّ من دنياه. لا أعني بذلك تماماً أنّ الشعر واقعيّ، كما يقال أحياناً بصورة مغلوطة عن الشعر أو سواه، ولا أعني أنّه ماديّ أو ملموس، بصرف النظر عن ملاءمتهما، لكنّي أشعر أنّ هذا الشعر يولد على الطريق. لا يولد بل ينساب من الفم، على شكل حسرة أحياناً أو ملامة أو عتاب أو أنشودة قصيرة أو لهفة أو إخبار أو سرد. في كلّ ذلك ما يقال وما يسمع أو يلتقط بالسمع أو يهمس أو ينشد لهنيهة أو يحكى أو يسرد أو يباح به ويفلت من الأعصاب والمهجة. أي أن قارئ دارين حوماني يرافقها في سيرها وكلامها، وقد يصحبها ويتكلّم معها ومثلها، فهذا الشعر ذو إلفة شديدة وقد كتب أو قيل ما بين إثنين، وحاجته واضحة إلى أن يسمع وأن يتبادل وأن يكون مجال أخذ وردّ وأن يتقاسم. لست أعني بهذا أنّ شعر دارين معنيّ بالقارئ ويتقصّده، فليست هذه سمته. هو عكس ذلك تماماً إنّه السر، وقد غلى في القلب فانبثّ كسرّ وقيل في سرّيته وحميميته وغليانه وجوّانيته. إنّه الداخل وقد استولى على المشهد وعلى الكلام، ولكن الكلام وهو يشبه ما يفلت من الفم، ويشبه ما ينحكي وما يقال، الكلام على هذا الوجه يملك نفس المحكي لا صياغته. إنّه في استرسال المحكي لكنّه في الوقت ذاته تغريب المحكيّ وانسحاره، إذ لا يني يتغرّب من دون أن يتخلّى عن استرساله. من داخل هذا النفس المحكي يتفتّق الكلام عن العجيب والسحري. من داخل المنطوق أو ما يشبه المنطوق تفلت شرارات عجائبيّة لا ننتبه إليها كثيراً ولا نتفاجأ بها، بل نبقى في تردد نفسنا وفي انسيابه، وفي شعورنا بحميميته وقربنا منه. مثل هذا الشعر يلامسنا في قرارتنا وكأننا شركاء في قوله. إنّه يقولنا ويقول الشاعرة في الوقت نفسه، بل نحن نشعر أنّه مبثوث من حياتنا ومن سيرتنا بقدر ما هو مبثوث من سيرة الشاعرة وحياتها، بل هو لون من الاعترافات ومن السيرة الداخليّة الحقيقيّة أو المتخيّلة للشاعرة. نقرأ القصائد وكأنّه فصول حياة أو كأنّها في دفئها وقربه ذكريات أو هي تمرّ كذكريات وترفّ كذكريات. الشاعرة هنا بجسدها وبحنينها وبلهفتها وبغضبها. إنّها العواطف الأولى، العواطف البدائيّة البريّة أحياناً بحيث نشعر بأنّها تقال كما هي، وتخرج من دون جهد وتنتظم من دون تقصّد أو تعب. نشعر بأنّ هذا الشعر يتكلّم من دون افتعال. إنّ فيه ما نستطيع أن نسميّه براءة فحتىّ حقائقه الصافعة، وحتّى أكثر سطوره انفعالاً، تقال بقدر من الهدوء واللاتعمّد، كأنّها تقال بلسان طفل أو بالغ يتذكّر طفولته. إنّ شيئاً من قصّة حياة، من اعتراف، من تسجيل للشكوك والالتباسات والشبهات، من وثيقة شخصيّة، يخيّم على فضاء نصوص دارين حوماني.
مشاركة :