مر طلاب مصر بتحول منظومة التعليم من كونها كالماء والهواء إلى اعتبارها سد خانة. واجتازوا مرحلة تدهور نوعية التعليم والتغاضي عن جودته. ولم يعودوا يتوقفون كثيراً أمام اندثار منظومة المدرسة وغلبة كيان الـ «سنتر» معلماً ومربياً. حتى مسألة حضور الطالب الفصل الدراسي في أيام الدراسة لم تعد تشغل البال أو تؤرق الحال. وحالياً استهلوا مرحلة «رؤية اللارؤية في التعليم». فهناك تيار متنام يعبر عن نفسه في كليات عدة وبين طلاب وطالبات كثيرين يشير إلى أن الغرض نفسه من التعليم صار في خبر كان. بعضهم يعرب خبر كان باعتباره فاعلاً مسؤولاً عن اختياراته ومن ثم لا يحق له الشكوى أو التضرر. وبعضهم الآخر يراه مفعولاً به ومن ثم يحظى بمعاملة الضحية ولا يحق لأحد محاسبته أو تضييق الخناق عليه. وفريق ثالث يؤكد أنه مضاف إليه اذ يضاف إلى سلسلة طويلة من أعراض فقدان البوصلة وغياب الهدف في ضوء تحولات كبرى تعصف بالبلاد والعباد. وتظل هناك مجموعة رابعة تعتبره حالاً، ولأن تغيير الحال في نظر الشباب، لا سيما من هم في مقتبل سن التعليم الجامعي، صار من المحال فإن غياب تعريف واضح للغرض من التعليم ليس إلا حالاً. «حال التعليم لا يسر عدواً أو حبيباً. ولولا إنه ينبغي علي أن أحصل على شهادة قبل أن أسافر لتوقفت فوراً». قصة أحمد تامر (20 سنة) الذي يدرس في كلية التجارة تشبه قصة ملايين غيره، ممن داعبهم حلم الالتحاق بكلية الهندسة، لكن مكتب التنسيق بعثر الحلم ودهسه ودفع به إلى «التجارة». ويصارح أحمد نفسه قبل أن يصارح من حوله فيقول: «وحتى لو كنت التحقت بكلية الهندسة، فإن أقارب وأصدقاء لي تخرجوا في كلية الهندسة ويعملون في تخصصات أخرى أو لا يعملون من الأصل. لذا لست حانقاً على الكلية التي أدرس فيها، ولكن الغرض من رغبتي العارمة في إنهاء دراستي والحصول على البكالوريوس هو إنه شهادتي نحو السفر». صحيح أن حتى فكرة السفر غير واضحة في ذهنه، لجهة الغرض من السفر أو وسيلته أو حتى إمكان تحقيقه، لكن يبقى الغرض الوحيد الواضح من التعليم هو السفر على غير هدى. لكن حتى «هدى» نفسها تجد صعوبة في تحديد غرض واضح وصريح من التعليم باستثناء إنه «كده»! هدى التي تدرس الاجتماع في كلية الآداب تقول إنها حصلت على الثانوية العامة ولم تشغل بالها كثيراً بحكاية الكليات والتخصصات، لأنها غير مهتمة أصلاً. تجلجل ضحكتها في أنحاء المكان وهي تقول: «في الحقيقة لو وصل «الأستاذ المناسب» اليوم سأتعجل إنهاء الدراسة، ولو تعثر وصوله، فسأستكمل الدراسة على مهل. وأتمنى ألا أضطر للعمل بعد التخرج». وبسؤالها عن سبب اختيار الاجتماع من دون غيره طالما الغرض من الدراسة لا يتعلق بالدراسة نفسها، قالت: «كده». ضياع الرؤية وغياب الهدف وتبخر الغرض أمور تعبر عن نفسها في شكل أكثر وضوحاً بين عدد من طلاب كلية الإعلام الذين تطغي عليهم الرغبة في العمل في مجال الإذاعة. وعلى رغم ذلك، تجمع بينهم حال من المقاومة الشديدة لأي محاولات لتعلم أدوات الكتابة الصحافية أو التمكن من قواعد اللغة الصحيحة أو حتى حضور المحاضرات. العجيب والغرب والمريب أن القناعة التي تجمعهم طالما حلمهم ينصب على العمل الإذاعي من دون عالم الصحافة، فإن كل ما يحتاجونه هو شهادة تفيد بحصولهم على بكالوريوس في الإعلام، من دون تكبد عناء الإمساك بالقلم أو حتى الدق على «كيب بورد» الكومبيوتر» لكتابة نص صحافي. وتتساءل رانيا حلمي (20 سنة) باستنكار: «لا أستطيع أن أفهم الداعي إلى تعلم قواعد الكتابة الصحافية إذا كنت سأعمل مذيعة في الإذاعة؟» سؤال رانيا الاستنكاري لا يعكس إلا ضياعاً كاملاً للرؤية الخاصة بالتعليم بين الطلاب أنفسهم بالإضافة إلى غيابها في منظومة التعليم الجامعي في مصر على مدى سنوات. فقد نجح مكتب التنسيق – صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في تحديد وجهة حاملي شهادة الثانوية العامة في ما يختص بالمسار الجامعي- في الإجهاز على آمال وأحلام ورغبات وكذلك قدرات وملكات ومواهب الغالبية المطلقة من الشباب والشابات في مصر على مدى عقود. ومن ثم، فقد وجدت سارة عبد العظيم (21 سنة) التي ظلت تحلم بدراسة طب الأسنان طيلة حياتها نفسها في كلية إدارة الأعمال، ووجد حاتم رفعت (21 سنة) الذي «أهدر» ثلاث سنوات كاملة من عمره أثناء الدراسة الثانوية في مراكز الدروس الخصوصية على أمل الالتحاق بكلية الهندسة، في كلية التجارة بدفع من مكتب التنسيق. كلاهما يجيب بسخرية لاذعة بسؤالهما عن رؤيتهما الخاصة بالتعليم الجامعي. سارة تقول إنها «أقرب ما تكون إلى الرؤيا». وحاتم يؤكد أنه «كابوس» لا بد منه. حين يتحول التعليم الجامعي في نظر جانب من الطلاب إلى «شر لا بد منه» أو ورقة تٌعلق على الحائط أو ضمن مسوغات إتمام الزيجات فهذا يعني أن هناك عطباً ما. وحين يكون المجتمع على علم بهذه الرؤية وقانعاً بها راضياً عنها أو حتى غير ثائر عليها، فهذا يؤكد أن العطب كبير. وحين تتحول الدولة – بوعي منها أو على سبيل تخفيف حدة الصداع الناجم عن المشكلات- إلى راع رسمي للتعليم الجامعي باعتباره سد خانة أو مسكّن صداع أو ملف مؤجل لأجل غير محدد، يكون العطب قاتلاً. محاولات عدة بٌذِلت في سنوات ما بعد «ثورة يناير» 2011 لإصلاح حال التعليم الجامعي المائل لكن تظل الرؤية غائمة. فبالإضافة إلى المعلومات والأرقام المفزعة التي تؤكد إنه كلما ارتفعت الدرجة التعليمية الحاصل عليها الشباب في مصر زادت معدلات البطالة (دراسة أجرتها منظمة العمل الدولية في مصر في عام 2012)، تظل مجانية التعليم الجامعي في الألفية الثالثة ملفاً ملغوماً يخشى الجميع الاقتراب منه. كما تظل حتمية ربط التعليم بسوق العمل وحاجاته مؤجلة. التصريح الأول الصادر عن وزير التعليم العالي والبحث العلمي الجديد الدكتور خالد عبد الغفار لم يخرج عن إطار الإشارة إلى توجيهات الرئيس بضرورة الاهتمام بالتعليم الجامعي، والارتقاء بالخدمات التعليمية، وتطوير البحث العلمي، وحل المشكلات في وقت وجيز بحلول غير تقليدية، والتي ستتركز على التطبيق العملي وليس وضعها حبيسة الأدراج. وإلى أن يتم ذلك، تستمر رؤية اللارؤية تسيطر على المنظومة.
مشاركة :